… الإشكالية والفخ

“مسابقة إعادة بناء مسجد النوري بالموصل – العراق 2021” هذا هو العنوان الذي صدرته اليونيسكو للإعلان عن المسابقة ونتائجها

الحقيقة أن هذا العنوان يحمل قدر من الإلتباس ويعبر عن سقطة وقعت فيها اليونيسكو، حيث كان يمكن في تقديري أن يصاغ العنوان بهذا الشكل:
“مسابقة أفكار حول إعادة بناء وترميم جامع النوري وإحياء السياق المحيط”
نحن رأينا تجارب متباينة لدول عديدة بالعالم الحديث مرت بفترات كوارث أو حروب وصراعات نتجت عنها دمار شامل لأبنيتها التراثية ورأينا كيف تنوعت المداخل الفكرية والاستراتيجية للتعامل مع تلك الأبنية والنسيج المحيط بها.
على الرغم من التباين الواضح في تلك المداخل الفكرية مابين الترميم وإعادة البناء المتطابق وما بين التطوير والاستحداث كان هناك قاسم مشترك بينها جميعاً ألا وهو خضوع هذا النهج لنقاش مجتمعي ومهني في سياق ومدى زمني طويل تمكن من خلاله المجتمع المحلي في تلك الدول من بلورة رؤية والوصول للفكرة الاستراتيجية العامة التي سينتهجها للتعامل مع هذا الموضوع ويطمئن لها ضميره الجمعي.
أصبح من الثابت لدينا مهنياً أن عمليات الترميم تستغرق مدى زمني طويل كونها أشبه بعمليات جراحة شديدة الدقة تتم لإعادة الأصل لما كان عليه ويزداد هذا المدى الزمني كلما زادت الحالة المتدهورة للأصل. فما بالنا بنسيج عمراني تراثي ضخم وضارب بجذوره في عمق التاريخ؟
إن كانت عمليات إعادة الحياة إلى الأصل تتخذ كل هذا الوقت الطويل فكيف هو الوقت اللازم للنقاش الفكري حول المدخل الاستراتيجي المناسب لها؟
أنه لمن المنطقي والطبيعي جداً أن يتم العصف الذهني لهذا الموضوع داخل إطار المجتمع المحلي وليس خارجه فهذا المجتمع هو ليس فقط الوارث الوحيد لهذا التراث بل أن هذا التراث يشغل حيزاً لا يستهان به في نفوس وأرواح أفراده وهم من لديهم الشفرة الغير مادية واللازمة لإعادته للحياة مرة أخرى فهو من دونهم يبقى نوع من أنواع الجوامد التي ليس لها قيمة أو معنى.
من الطبيعي ايضاً أن تتباين أراء أفراد المجتمع فيما يرونه مناسب للتعامل مع هذا الأرث المتهدم بعد الكارثة وهذا التباين في الرؤى هو أشبه بالآلام التي تسبق عملية المخاض حيث تتصارع الأفكار والرؤى ثم تتمازج ثم يخرج من رحمها ما يعبر عن ضمير هذا المجموع.
من الممكن بالقطع أن يكون هناك مساهمة للمجتمع الدولي وهذا فقط بغرض دعم تلك الطروحات المحلية برؤى مستقاه من تجارب دولية خاضتها الإنسانية في شتى بقاع المعمورة وهذا ما كنت أراه مناسب أن تقدمه المسابقة، فقط مجرد أفكار ورؤى مستندة لخبرات حقيقية قد تساعد هذا المخاض المحلي في بلورة اختياراته واستراتيجيته.
لقد ارتكبت اليونيسكو خطأ فادحاً حينما تجاوزت هذا كله وصاغت الأمر برمته وكأنه مسابقة “معمارية” لتصميم مباني تستوعب استخدامات جديدة على هامش ” إعادة بناء المسجد المتهدم ” متجاهلة تماماً أهمية السياق وحتمية المدى الزمني المطلوب لصياغة الاستراتيجية الملائمة لحفظ ذاكرة المكان.
لقد أوقع هذا الخطأ الكثير من المعماريين والمصممين الكبير منهم قبل الصغير ولا أستثني نفسي في بداية الأمر وقبل أن أخوض في مسار طويل من النقاش والدراسة حول الموضوع.
لقد وقع الكثيرين منا في فخ النقاش حول “الحلول” والـ “تصاميم” والبعض مع الأسف استدرجه الفخ لمزيد من البعد عن اللب الرئيسي وقاده للتوغل في نقاش حول التفاصيل حتى أذهلني أن أجد البعض يناقش الجدلية بين التصاميم المعمارية التقليدية والتصاميم الحديثة !!!! وكأن هذا هو جوهر الصراع الفكري الدائر !!! والبعض الآخر “بتبسيط مخل” يناقش إمكانية إدماج مجرد عناصر شكلية كالأقواس مثلا في الواجهات للمشروع الفائز !!!!!!! وهذا كله في تقديري راجع لكون أولائك وهؤلاء قد انطال عليهم هذا الفخ وانساقوا لمناقشة “تصميم” ونتاج بنائي بدلاً من أن يلتفتوا لما هو أهم وهو التوجه “الاستراتيجي” للتعامل مع المشروع.
بعض من المعماريين “الحداثيون العرب” قد دخلوا على الخط بعد أن ثارت حفيظتهم وهبوا للدفاع عن مذهبهم “المقدس”!! في محاولة منهم لدفع النقاش حول المشروع وكأنه صراع بين القديم التقليدي والحديث المعاصر!!! والعجيب حقاً أنك إن تسأل أحدهم عن مفهومه وتعريفه لمعنى “الحداثة” ستجده يتناول مجرد نقاط تتعلق بالشكل بأكثر مما تتعلق بالمضمون، والذي حقيقة يدهشني أكثر كونهم يدافعون عما لا ينبع من واقعهم المعاش حضاريا والذي لا يرتبط بنا كنتاج حضاري بل هو يرتبط بحضارة الغرب التي تخضع في تطورها الطبيعي لروافد ثقافية واجتماعية وفنية واقتصادية بعيدة كل البعد عنا وعن هؤلاء “الحداثيون العرب”.
الحديث عن الحداثة والحدثاوية يحتاج أن يفرد له مقال مستقل ، ولكن أنصح هؤلاء الحداثويين أن يقرأوا هذا المقال الفريد الذي أضع رابطه هنا ليعلموا أي أرض هشة يقفون على أعتابها الآن بعد أن كفر الغرب معقل وصانع هذه الحداثة بها وما أفرزته من مظاهر العولمة المقيته وأصبح يقوم بخطوات واسعة الآن لمراجعة “ما بعد الحداثة ” واستعادة شعور هوية المكان التي اشتاق اليها طوال مدة قرن من الزمان سيطرت فيه الأنماط الصناعية والتجارية ذات الخطوط والأنساق الموحدة على الذوق العام العالمي حتى باتت معظم بلدان العالم نسخاً متشابهة لا فرق فيها بين شرق أو غرب جميعها تحتوى نفس الصور المتكررة المملة.
من وجهة نظري المهنية أن كلاً من السياق التنظيمي والمدى الزمني للمسابقات المعمارية المستهدفة “للتصميم” لا يصلح نهائياً لمثل هذه النوعية من المشروعات وأن جل ما يمكن تقديمه فقط هو مجرد أفكار لخطوط عريضة وحسب.
ختاماً أنا لا أعتقد أن هناك عاقل على سطح البسيطة، مهني كان أم رجل شارع عادي يمكن أن يقبل تحويل واستبدال مراكز المدن التاريخية ونسيجها التقليدي التراثي إلى مجرد نسخ ممسوخة مما يمكن بناؤه بأساليب وأليات العمارة “العابرة للقارات” التي فرغت من مضمونها كرافد حضاري وتحولت لمجرد “سلعه” ذات شكل صناعي جذاب.
 
محمد الرافعي، 7 مايو 2021
 
 
 

 

 

 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة

  لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة   هذا هو الهدف الرئيس الذي تمحورت حوله رؤيتنا التصميمية للمشروع الذي صممناه حديثاً ونشارك أفكاره معكم . فالنسيج الكتلي المتضام، والفناء الداخلي، وخلق الفراغات المنحوتة في الكتلة من الداخل إلى الخارج، وتوظيف مواد البناء الطبيعية في الإنشاء، والتهوية…

هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم

  هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم   أتتذكرون طفولتكم وكم هي كانت جودة الحياة فيها؟ أتذكرون عندما كانت المباني تجسد صورة دقيقة لقسمات مجتماعتنا، وتحمل في طياتها قصصاً وأسراراً؟ عندما كانت الجدران تتحدث، والخشب يروي حكايات الزمن؟ اليوم، يبدو أن المباني فقدت روحها، وتحولت إلى مجرد هياكل خالية…

العمارة النظرية… وحب الظهور

  العمارة النظرية… وحب الظهور   وصلتني مؤخرًا دعوة للمشاركة كمتحدث رئيس في مؤتمر دولي يتناول قضايا التراث والترميم تحديدًا، فتساءلت في حيرة: من أين حصل المنظمون على معلومة أنني متخصص في الترميم؟ فهذا المجال لم أعمل به قط، ولا توجد لدي أي خبرة عملية مرتبطة به، لذا فأنا لست…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثالث

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثالث – التراث فوبيا في عالمنا الذي نعيشه الآن ونؤتمن فيه على ميراث ألاف السنين من التجارب الحياتية الحضارية التي صنعها الإنسان بوجوده على هذا الكوكب يوجد نموذجان من المعرفة لا ثالث لهما :   النموذج الأول – معرفة متوارثة نتجت عن تراكم خبرات…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثاني

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثاني – الحائط الحامل   في المقال السابق تحدثت عن أول عنصر يثير الحساسية عند الكثير من المعمارين “الحداثيين” وهو السقف القوسي وتحديدا “القبة ” بسبب نظرتهم القاصرة إليه كونه تعبير بصري ويغفلون عن حقيقته كونه نسق إنشائي بيئي في الأساس وتأتي تعبيراته البصرية…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP