محطات مهنية……. المسقط المرن
في عام 1992 كنت أدرس بالسنة التمهيدية للماجستير بجامعة القاهرة وكانت احدى المواد الدراسية يدرسها لنا استاذان جليلان أدين لهما بكل العرفان والتوقير أطال الله في عمرهما ، وهما استاذنا الدكتور سيد التوني واستاذتنا الرائعة الدكتورة نسمات عبد القادر.
في أحد المحاضرات دخل علينا الاستاذان وبيدهما رزمة من الأوراق التي بدا لنا أنها من كتاب بحثي أو من هذا القبيل ثم أخرجا من تلك الرزمة ورقة بها مسقط أفقي بسيط وهو عبارة عن مستطيل بأبعاد 7.2×8.3 م تقريبا ويحتوي على شبكة مديولية من تسعة أعمدة بينها مسافات منتظمة 3.6 متر، ومضاف لأحد أضلاع المستطيل شريحة بعرض 1.1 كما هو موضح بالصورة.
طلب الاستاذان من كل دارس أن يطلق لخياله العنان ويضع تصور لنموذج سكني يصلح لسكن عائلة من محدودي الدخل في إطار هذه المساحة المحدودة والتي تقدر بحوالي ستين متر مربع وفي ضوء المحددات الإنشائية والمعمارية الموضحة.
لم يكن هناك في ذلك الوقت ما يعرف الآن بالأثاث المتعدد الاستخدامات ولم يكن يتوفر في وقتها مفروشات أيكيا الذكية. كان أقصى ما هو متاح للاستخدام هو السرائر ذات الدورين لنوم الأطفال.
للوهلة الأولى قفز إلى ذهني السؤال التقليدي : ماهو حجم الأسرة التي يجب أن أوفر لها هذا السكن وكيف يمكن لهذه الستين مترا مربعا أن تكفي احتياجاتها المعيشية؟ وهل من الممكن أن أخلق من تلك المساحة الضئيلة فراغات رحبة لا تشعر القاطنين بالاختناق بسبب محدوديتها؟
ماذا لو كانت هذه الأسرة لديها عدد من الأطفال أكثر من طفلين وهو ما يعتبر أمر طبيعي لهذه الشريحة الاجتماعية والمخصص لها السكن في هذا النموذج، وماذا لو كان هؤلاء الأطفال من الجنسين ؟ وهل يمكن توفير حيزات وظيفية مناسبة مع عدم التضحية بأي من السمات الاجتماعية الأساسية لهذه العائلة كتوفير الخصوصية والفصل بين الجنسين والتي غالبا ما تصبح مشكلة شائعة في مثل هذه المساحات الضيقة المحدودة؟
بدأت أول ما بدأت أن أفكر في ماهية العناصر التقليدية التي يمكن الاستغناء عنها لتوفير المساحة؟ فأول ما جال بخاطري ماذا لو أمكن الاستغناء عن ممرات الحركة نهائيا بحيث يكون الإنتقال داخل الوحدة السكنية عبر الفراغات أي من غرفة لأخرى بدون وجود ممر رابط وهو ما نسميه في لغتنا الدارجة “الطرقه” ؟ علما بأن هذا النسق التصميمي كان شائعا في منازلنا التقليدية قديما حينما كان المنزل يتوسطه قاعة للمعيشة تتصل بها كافة الغرف مباشرة ولا يوجد ثمة ما يعرف الآن بالممر.
انتقلت من هذه النقطة الى إعادة النظر في الثوابت التي تتوفر في كافة البيوت السكنية والتحرر من النظرة الكلاسيكية لها مع تحليل الأنشطة اليومية للأسرة ونوعية الاستخدامات التي تحتاج لممارساتها في الفراغات ، وقد نتج عن ذلك أن قسمت نسق الحياة داخل الوحدة السكنية من خلال هذا المنظور الى قسمين:
أنساق ثابتة : وهي التي ترتبط بأنشطة تحتاج لحيزات ثابتة خاصة بكل فرد من افراد العائلة حيث يشعر الفرد فيها بأنها تخصه وحده دون غيره وترتبط بوجود قطع من الفرش الثابت للاستخدام وعلى رأس تلك الأنشطة النوم كمثال.
أنساق مرنه : وهي التي ترتبط بمجموعة أخرى من الأنشطة التي لا تحتاج لحيزات ثابتة ويمكن استيعابها بصورة مرنة كمثال نشاط الطعام مثلا أو نشاط الاستذكار حيث كثير من الأسر البسيطة تسمح لأبنائها بمذاكرة دورسهم في أي مكان خال داخل البيت وقد يتناوب الأطفال على استذكار الدروس في مكان محدد أو طاولة واحدة.
بناء على ما سبق قدمت الحل التصميمي الذي وصفه الاستاذان “بالعبقري”…..
لقد خصصت منطقة القلب لاستيعاب الأنساق الثابتة حيث شكلت هذه المنطقة بدائرة نصف قطرها 2,60 متر ومركزها هو العامود الموجود في المنتصف حيث وضعت كافة الأسرة المخصصة للنوم في ثلاث حيزات مفصولة عن بعضها البعض بواسطة حوائط من البانوهات الجبسية العازلة للصوت وقمت بتحديد هذا القلب الدائري من خلال وضع بانوهات من الشرائح المقوسة الرأسية والمصنوعة من البلاستيك المعتم مثلا، وهذه الشرائح تكون منزلقة على مجاري مثبته في السقف العلوي ، والتي يمكن باستخدامها أن تعزل هذه المنطقة عن المحيط وكأن الحيز المحتوي على أسرة النوم يتحول إلى كابينه مغلقة ليلا وهو ما لا يضير الشخص النائم ، فالنائم يغلق عينيه لينام وقديما كانت الأسرة تحاط بستائر خاصة تشعر النائم بالاحتواء والسكينة أو تحاط بقماش شبكي للحماية من الناموس.

اسكتش تصميم المسقط الأفقي للوحدة السكنية
ثم وضعت على المحيط الخارجي للوحدة كافة المفروشات التي تستوعب الاستخدام المرن من خزائن للملابس أو طاولات لللاستذكار أو أي مفروشات يمكن لأفراد الأسرة تقاسم ومشاركة استخدامها بحيث لا يحتاجون لتكرارها من غرفة لأخرى مما يوفر في المساحة المخصصة لها فعلى سبيل المثال يمكن للبنات أن يستخدمن طاولة الزينة “التسريحة” الخاصة بالأم وبالتالي لا يوجد ضرورة لتكرار هذه القطعة مرة أخرى في غرفتهم، وكذلك يمكن للبنات استخدام الفائض من المساحات الخالية في خزانات الملابس المتواجدة بحيز الأولاد وهكذا ، فتكرار قطع المفروشات يستهلك جزء كبير من المساحة الشحيحة أصلا.

المحددات الأساسية للتصميم والهيكل الإنشائي
وقد راعيت في صياغة الفراغات وتوظيفها أن احافظ على تسلسل مناسب للحركة يسمح بتوفير الخصوصية التي تحدث عنها سابقا فوضعت تصوري على أساس الحركة الدائرية حول المحور حيث تبدأ الحركة من المدخل فتمر أولا بغرفة المعيشة (والصالون) ثم الحيز المخصص للأولاد ومنطقة المطبخ والحمام ثم الحيز المخصص للبنات ثم في النهاية يوجد الحيز المخصص للأب والأم والذي يمكن الوصول إليه مباشرة من غرفة المعيشة.
والصورة توضح التصميم الذي قدمته لهذا النموذج لإسكان أسرة مكونة من أب وأم وولدان وبنتان في مساحة ستون مترا مربعا ويوفر ثلاث حيزات نوم مستقلة إضافة لصالون كبير ، وبحيث يشعر داخله القاطنون برحابة الفراغات وبخصوصية كاملة.
التصميم يضمن تهوية وإضائة طبيعية تماماً بالداخل من خلال الفتحات الموجودة بالواجهتين المتقابلتين.

الورقة البحثية المنشور بها التصميم – مايو 1992
أتصور أن هذه الفكرة في ظل وجود التصميمات الذكية للأثاث المتعدد الاستعمالات المتاحة الآن والتي يمكن توظيفها بصورة فعالة في توفير احتياجات القاطنين مع استهلاك أقل مساحة ممكنة، قد تشكل نموذج مناسب لإسكان منخفض التكلفة يقدم حل فعال وعملي لمعيشة العائلات الكبيرة في حيز مساحي صغير داخل المدن المزدحمة.
لقد تم نشر التصميم في كتاب بحثي قدمه الاستاذان من خلال المجلس الأعلى للجامعات حول النماذج السكنية المخفضة التكاليف بمصر.
محمد الرافعي، 3 فبراير 2022