البغبغاء المعماري

 
هل إذا كان هناك ببغاء له قدرة فائقة على محاكاة أصواتنا، ويدير حوارًا معنا عن طريق تركيب وترديد كلمات حفظها عن ظهر قلب بدقة متناهية تبعث على الدهشة وتثير الإعجاب، هل يمكننا أن نطلق عليه إنسانًا؟ هل يعي هذا الببغاء المعاني التي تكمن خلف كلماته؟ هل يتذوق تأثير كل كلمة كما نتذوقها نحن، بعقل وقلب؟ هل يدرك المدلولات العميقة والتبعات التي تخلفها على المتلقي؟ وهل يتفاعل مع النبرات المختلفة التي تضفي على الكلمات مقاصد مختلفة؟
هل ذاق مرارة كلمة “ظلم” حتى وإن نطق بها؟ هل شعر بنشوة كلمة “حب” حتى وإن رددها؟ هل يستطيع أن ينسج من تلك الكلمات أبيات شعر تتسلل إلى الوجدان وتوقظ فيه المشاعر الكامنة، ثم يتأثر هو نفسه بما صاغه؟ هل يمكن أن ينمو في داخله شعور بالتعاطف تجاهنا، يدفعه لأن يختار الكلمات التي تداوي جراحنا، وتغمر قلوبنا بالدفء والأمان؟ هل يمكن لهذا الببغاء أن يتحرر من “النماذج” الجاهزة التي يلقنه إياها البشر، ليبني شخصيته الخاصة، المستقلة عن كل ما لقِّن به؟ هل يستطيع أن يقرأ ملامح وجه صاحبه، فيدرك ما يختلج في صدره ويدور في ذهنه دون أن ينبس ببنت شفة، ثم يلقي عليه كلمات تنساب إلى قلبه لتخفف عنه حزنه أو تزيد من بهجته؟
إن كان هذا “الببغاء”، الذي ندعوه “الذكاء الاصطناعي”، عاجزًا عن كل ذلك، فبأي منطق يظن البعض أنه يومًا ما سيجلس على كرسي المعماري، ليحل محلنا نحن البشر؟
نحن المعماريين نؤمن إيمانًا راسخًا بأن العمارة ليست مجرد بناء، بل هي عمل إنساني متكامل، يتنفس مع الإنسان ويحيا به. فالبون شاسع بين صناعة مجرد هياكل مباني جامدة وإبداع عمارة حقيقية. إن التصميم المعماري ليس مجرد رسم مساقط أو واجهات، أو وضع اعتبارات بيئية، أو إنتاج مناظير وواجهات ملونة مبهجة! كل هذه مجرد أدوات، وليست هي جوهر العمارة. فالجوهر الحقيقي يكمن في الأفكار، والرؤى، والمبادئ، والموقف الإنساني الذي يتخذه المصمم تجاه مشروعه ومستخدميه، إنه الوعي الشعوري الذي يحرك كل عملية الصياغة الإبداعية، ويمنحها روحًا.
فهل يمتلك الذكاء الاصطناعي رؤى إنسانية؟ هل يدرك قضايا التنمية المجتمعية وارتباطها العميق بالعمارة؟ هل يستطيع أن يتواصل مع معلمي البناء والحرفيين المهرة ليتعرف على مهاراتهم اليدوية، فيصمم أعمالًا تستلهم من هذه المهارات وتوظفها؟ هل يستطيع أن يبتكر لغة بصرية أصيلة، ترتبط بذائقة مجتمع متجدد، وفي الوقت ذاته تعبر عن هويته وتستمد قوتها من جذوره الراسخة؟ هل يمكنه أن يتخذ موقفًا أخلاقيًا ومهنيًا يميز به بين المعمار الدخيل والغريب عن ثقافتنا، والمعمار الأصيل المتجذر فيها، فيقاوم الأول ويدعم الثاني؟
هل يمكنه أن يحلل عميلًا كإنسان متفرد، له أحلامه الخاصة، وعواطفه، وخلفياته الثقافية، فيتعامل معه كشخصية فريدة لا كنموذج رقمي بارد؟ هل يعي كيف يحفز المجتمعات المحلية للمشاركة في بناء فضائها، وكيف يغرس فيهم الشعور بالملكية والاعتزاز بهويتهم؟ هل يضع في حساباته إمكانية تطوير خامات وأنظمة بناء محلية، تراعي الأبعاد الاقتصادية والبيئية والتقنية؟ هل ينزل إلى موقع البناء ليتذوق التجربة الفراغية التي منحها للمستخدمين؟ من سيخبره أن نسبه الهندسية لم تمنح الفراغ الروح التي كان يصبو إليها؟ ومن سيجعله يدرك أن حلوله لم توفق في تحقيق القيم المجتمعية التي كان يفترض أن يجسدها؟
المؤسف حقًا أن البعض يغفل عن حقيقة أن هذه الأداة لا تبتكر ولا تخلق شيئًا من فراغ أو من عدم، بل هي مجرد وعاء يُملأ بما يُلقى فيه. إنها كالطفل الصغير، الذي يلقنه أبواه المعارف والقيم والأخلاق. فإن كانوا جهلاء أو فاسدين، سينشأ حتمًا جاهلًا وفاسدًا، خاصة وهو يفتقر للإرادة والإدراك الذاتي. فتصوروا معي للحظة، من سيلقن هذا الطفل نماذجه المعمارية في منطقتنا العربية؟ ونحن جميعًا نعلم حال “مبانينا” المعاصرة، ولا أقول عمارتنا! إن فاقد الشيء لا يعطيه، ونحن اليوم نخوض صراعًا مضنيًا لإيجاد عمارة صادقة تعبر عنا حقًا. فكيف لتلك الأداة، التي لا تعرف القصد أو النية أو الضمير أو الفكر المستقل، أن تحل محلنا في هذا المجال الإنساني بامتياز؟
في رأيي، أن أقصى ما يمكن لهذا “الذكاء الاصطناعي” أن يبلغه هو “تصميم المباني”، لا إنتاج عمارة حقيقية. فهو بالنسبة لي مجرد “أداة”، حتى وإن كانت متقدمة ومتطورة، لكنها لن تتجاوز أبدًا حدودها كونها أداة.
إن الماضي القريب جدًا يذكرنا بأدوات سبقته، كبرامج الأتوكاد والريفت وبرامج المناظير المتطورة. لقد رأينا كيف أن البعض جعل من استخدام هذه الأدوات غاية في حد ذاتها، فكانت النتيجة قبحًا معماريًا ومبانٍ لا تمت للعمارة بصلة، واختفاء للمهارات الفردية التي كانت تميز المعماريين القدامى. وفي المقابل، استخدمها البعض الآخر بحكمة، كأدوات مساعدة تعينهم على التركيز على العمل الإبداعي الحقيقي.
أنا لا أنكر أهمية امتلاك مهارة استخدام هذه الأداة الجديدة، بل هي قادرة على تحقيق نقلة نوعية في كل ما هو “كمي” وقابل للقياس، مثل دراسات نماذج الطاقة، وأنظمة التهوية والإضاءة الطبيعية، كما يمكنها إنجاز تحليلات الهندسة العكسية، ووضع التصاميم الهندسية الإنشائية والكهربائية والميكانيكية لتتناغم مع التصميم المعماري الذي يضعه الإنسان، ولكن نحن البشر سنبقى متفردين ما دامت فينا “الروح” و”النفس” و”المشاعر”. أما الآلة فستظل مجرد داعم لفكرنا وحواسنا وقدراتنا، ولن تستطيع أبدًا أن تحتل مكانتنا في كل ما يمس جوهر كياننا الإنساني.
ملحوظة: الصورة المصاحبة للمقال قد أنتجتها بتوجيهاتي إلى Gemini
 
 
محمد الرافعي، 15 سبتمبر 2025
 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

الصدق في العمارة

  الصدق في العمارة كلما شاركت بنشر أحد المشروعات التي أقوم بتصميمها مع فريقي التصميمي، في إطار محاولاتنا المستمرة لتحقيق مفهوم “العمارة الصادقة” الذي كنت قد طرحته منذ أكثر من ثلاث سنوات، ترد الي أسئلة كثيرة حول ماهية المفهوم؟ ومعاييره، والبعض يسأل عن احتمالية وجود عمارة “كاذبة” أو غير صادقة…

هويتنا وأنساقنا البنائية التقليدية، عودة للحياة من جديد. (1)

  هويتنا وأنساقنا البنائية التقليدية، عودة للحياة من جديد المقال الأول – هويتنا   يكثُر الحديث من آن لآخر حول “الهوية” وتفسيرها من منظور العمارة والعمران، ويصاحب ذلك العديد من الأسئلة التي يطرحها البعض من قبيل : هل الهوية هي مجرد مفردات تشكيل تظهر فقط على الواجهات الخارجية؛ كاستخدام زخارف…

هويتنا وأنساقنا البنائية التقليدية، عودة للحياة من جديد. (2)

  هويتنا وأنساقنا البنائية التقليدية، عودة للحياة من جديد المقال الثاني – الروشان   في المقال السابق تحدثت عن الهوية، وأهميتها العظيمة في حياتنا كمجتمعات، وأوضحت لكم أنني لن أتناول انعكاساتها على العمارة والعمران من منظور نظري، بل سوف أستعرض استيعابنا لها من خلال ممارستنا المهنية عبر تصاميم خضناها، أونعمل…

هويتنا وأنساقنا البنائية التقليدية، عودة للحياة من جديد. (3)

  هويتنا وأنساقنا البنائية التقليدية، عودة للحياة من جديد المقال الثالث – الحوش   استكمالًا لما بدأته في المقالين السابقين حول “الهوية من منظور معماري وعمراني“، حيث تناولت بالتفصيل في المقال السابق أحد الأنساق التقليدية التي قمنا ببحثها وتطويرها وتطبيقها في أحد مشروعاتنا، وهو “الروشان”، وأوضحت وجهة نظري في ارتباطه…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP