الجوائز المعمارية …….. بيزنيس فاخر لأصحاب الياقات البيضاء
منذ سنة تقريباً فوجئت برسالة على بريدي الإلكتروني من جهة تدعى “س” تفيد بأنني قد تم ترشيحي لجائزة هذه الجهة “المرموقة” عن أحد مشروعاتي وهنا ذكروا أسم مشروع خاص بي كان بالصدفة البحتة حصل على ترشيح فعلا من جائزة دولية محترمة!!!! ولكن الأمر كان لا يزال في مرحلة السرية التي تفرضها المؤسسة صاحبة الجائزة الدولية، فتعجبت كثيراً !!!!! من أين لهؤلاء أن يعلموا بأسم المشروع وأنا لم أنشر هذا الأسم نهائياً في أي وسيلة !!!!!؟؟؟؟؟ فدخلت على موقعهم الذي أرسلوا رابطه في رسالتهم وهنا كان حل اللغز: أن هذه الجهة تدير جائزة “مدفوعة الأجر ” للمعماريين وأن الأمر مرهون بدفع مقابل مالي للدخول ضمن المرشحين الرسميين لهذه الجائزة. تجاهلت الأمر بعد أن وصلني منهم عشرات الرسائل الإلكترونية التي لا يمكن أن أسميها سوى أنها “تسويق مبتذل ” ودعاية لجائزتهم. وتمر الشهور ويصلني خمس رسائل من خمس جهات مختلفة كل منها تدعي بأنها تدير جائزة معمارية دولية مرموقة ورفيعة المستوى!! وتفيد كل رسالة منهم بترشيح أحد مشروعاتي لجائزتهم……..!!!!! هنا فقط بدأت أنتبه، الأمر لا علاقة له بالعمارة من قريب أو من بعيد ولا يرتبط بجودة المنتج والعمل المعماري الذي أنتجه على الإطلاق الموضوع هو نوع جديد من ” البيزنيس ” الذي بدأ ينتشر سريعاً وخاصة في الفضاء الإلكتروني حيث يستغل أصحاب هذه الجهات ” الشركات ” الولع الشديد عند شباب المعماريين بمنتجات برامج الإظهار المعمارية الحديثة وما ينتج عنها من تشكيلات وصور منظورية خلابة تشد عيون الكثيرين بعيداً عن أي معنى أو محتوى أو فكر حقيقي لمشروعات متنوعة بعضها حقيقي والغالبية هي مجرد أفكار تصميمية أولية من بنات خيال مصمميها ، حيث لا تشترط هذه الجوائز أن يكون المشروع المقدم هو مشروع حقيقي أو حتى تم تنفيذه بل والكارثة العظمى من وجهة نظري أنني حينما بحثت في الوثائق المطلوب تقديمها عن المشروعات المرشحة وجدتها تركز على المحتوى البصري بأكثر مما تركز على أي معلومات فنية تفصيلية تفيد بإيضاح الأفكار والرؤى من وراء هذه التصاميم.
أنا أؤمن بأن العمل المعماري هو عمل شديد التركيب وهو عمل تراكمي تتفاعل فيه عوامل كثيرة ومتباينة ويلعب في نتاجه النهائي أطراف عدة ولهذا فإن الحكم الجاد والصادق والموضوعي على أي عمل معماري ليس بالأمر الهين ولا يمكن أن يتم من خلال إستعراض بعض من الصور “المبهرة” المأخوذة من زوايا يريد من خلالها المصمم أن يترك أنطباعاً محددا عند المتلقي بخلاف الواقع أو من خلال مناظير مبهرجة منفصلة تماماً عن صدق الموضوع ولا تخدم أي قضية حقيقية وإذا ما قام البعض بتناول قضايا هامة مجتمعياً تجد مع الأسف أنه يتم تناولها بهزلية وبسطحية شديدين لا تقدم أي حلول موضوعية مدروسة بعناية !!!!
ونظراً لأن الأمر أرتبط بالبيزنيس فأصبحت هذه الجهات تسعى لجذب أكبر عدد من ” الزبائن ” المشاركين لرفع المحتوى المتنوع في مواقعهم على شبكة الإنترنت وللإيهام بأن جائزتهم هي “الأهم” عالمياً وأنها تحظى بإقبال شديد. الأمر من وجهة نظري أصبح كالدعاية الإعلامية حيث لا مكان لجودة المنتج نهائيا والهدف الرئيس هو مجرد جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين لتحقيق أكبر ربح ممكن. والمصيبة أن مثل هذه الجوائز تدمر منظومات القيمة في العمل المعماري وتحيله إلى مجرد تكوينات وأشكال سريالية فاقدة المعنى وتحبط كل المحاولات الجادة التي قد يقوم بها بعض المعماريين الصادقين لتبني قضايا حقيقية حيث تجعلهم كمن يسير عكس التيار.
هذا مع الأسف جانب من الصورة القاتمة ولا يزال هناك جانب آخر يخص الجوائز الصادرة من المؤسسات الدولية الكبرى نفسها!
على الجانب الآخر أن موقفي من الجوائز المعمارية الدولية الجادة والمعروفة وهم بالمناسبة ليسوا كثيرين بل يكاد المتاح لنا في منطقتنا العربية والمعروف منهم لدينا أن يعدوا على أصابع اليد الواحدة هو كالتلي:
بادئ ذي بدء وقبل أن أدلف للحديث عن هذه الجوائز علينا أن نتفق على أنه لا وجود لثمة ما يسمى ” العالم المثالي ” في هذه الحياة، فهذه الصورة الوردية لا وجود لها إلا في مخيلة الحالمين.
علينا ألا نفرط في تصور الحيادية والمثالية في العالم الغربي كما يحلو للكثيرين أن يتطرفوا في تصوراتهم عنه. الجوائز بصفة عامة هي في النهاية مرتبطة بمؤسسات لها رؤيتها وتوجهاتها مهما كبرت أو تقادمت تلك المؤسسات، وأن القائمين عليها وعلى تلك الجوائز هم اشخاص مهما بلغوا من الحيادية إلا أنهم في النهاية تحركهم ثقافتهم وخلفياتهم المهنية ورؤاهم الشخصية.
مآخذي على معظم الجوائز التي تعاملت معها من واقع تجربتي الشخصية هي كالتالي:
1- أولى وأهم ثغرة في رأيي تتشارك فيها معظم هذه الجوائز هي عدم إعطاء المشروعات الوقت الكافي للمراجعة والتدقيق من قبل لجنة الحكم!!!!!! بالطبع دائما ما يكون هناك آلاف المشروعات المقدمة وهذه الآلف يتم تصفيتها إلى المئات لتمنح ” الترشيح الرسمي ” ولكن بالنظر إلى الوقت المتاح للجنة الحكم لمراجعة المشروع الواحد من هذه المئات نكون بصدد حالة لا أجد لها وصف مناسب سوى أنها “هزلية” !!!.
أعيد وأكرر دائما أن العمل المعماري هو عمل مركب ومتراكم ويحتاج لمعرفة الكثير من تفاصيله والمعلومات المرتبطة به ليتكون تصور كاف وصحيح عند من يحكم عليه فكيف بالله يمكن أن يتم الحكم مثلاً على مشروع من خلال استعراض لوحتين مقاس A3 لا يحتويان سوى على مجموعة من الصور والرسومات وبعض رؤس البيانات ويتم ذلك في دقيقتين ونصف فقط !!!!!! نعم دقيقتين ونصف……… وأنا هنا لا أتحدث عن تصور وهمي بل أتحدث من واقع مراسلات رسمية وعن أرقام فعلية تخص أحد أكبر الجوائز المعمارية الدولية المرموقة !!!!
ولكي أكون منصفاً فأن هذه الجائزة يتم التحكيم فيها خلال مرحلتين أساسيتين وما أتحدث عنه يخص المرحلة الأولى منها وهي “عنق الزجاجة”، والتي أرى أن بها ثغرة فادحة ، لأن ما يتم في المرحلة الثانية والنهائية هو أمر في قمة الموضوعية والإحترافية فالمؤسسة ترسل وفد لجنة الحكم لدراسة المشروع على أرض الواقع وهنا فقط يتحقق ما أراه مسوغاً للحكم بصدق على جودة العمل المعماري.
في رأيي الشخصي أن مثل تلك المؤسسات تحتاج لأن تنتبه لهذه الثغرة وهناك حلول عدة لسدها ومن ضمنها في تصوري الشخصي، أنه يمكن تقسيم الجائزة لقطاعات نوعية ترتبط بنوعية المشروع ويكون لكل منها لجنة حكم منفصلة فلا يختلط مشروع مستشفى مثلا مع مشروع سكني خاص في آن واحد، ومن غير المنطقي في تصوري أن يطلب من عضو لجنة التحكيم أن يكون لديه المقدرة والمرونة والكفاءة التامة للحكم على الإثنان بنفس القدر من الأحترافية!!!!
2- المأخذ الثاني من وجهة نظري هو ضبابية معايير التحكيم بصورة مفصلة أحياناً، صحيح أن التوجهات العامة للجائزة تكون معلنة ولكن المعايير الخاصة بالقياس والحكم على المشروعات نادرا ما تكون معلنة وواضحة بصورة شفافة حتى أن الواحد يحتار أثناء قراءة التقارير المصاحبة للإعلان عن المشروعات الفائزة فيجد بعض التضارب أو التناقض بين بعضها البعض وكأن لجنة الجائزة قد أنقسمت على نفسها ولا يوجد بين أعضائها اتفاق واضح على المعايير.
3- المأخذ الثالث وهو مأخذ “ظني” لا أملك دليلاً مثبتاً عليه سوى المتابعة والمشاهدة والإستنتاج ، ألا وهو أنه غالباً ما يكون هناك توجه “سياسي” أو “أيدولوجي” من وراء منح بعض الجوائز ، وإلا فما هو تفسير وجود مشروعات في دول بعينها لا تغيب عن القائمة النهائية في كل دورة ؟؟!!!!!!
بالقطع أنا لن أتحدث عن الجوائز المعمارية المحلية أو العربية فهذه مع الأسف يعتري معظمها العوار إلا بعض الإستثناءات وسأكتفي بهذا القدر وأترك للزملاء المشاركة بالرأي لعلنا نصنع فرقاً إيجابياً.
وقد يسألني البعض وما سر كل هذا الاهتمام بموضوع الجوائز فأقول له:
أننا نعيش في عالم تغيب فيه الكثير من القيم الإيجابية عامة ومنظومات القيم المعمارية خاصة ، وحال النتاج البنائي في بلادنا غير خاف على أحد ولا يحتاج لمزيد من الوصف لمدى تدهوره ، وأنه أصبح على كل معماري صادق يريد أن ينتج معمار حقيقي أن يجاهد ويكافح أمام هذه الحقيقة والواقع الثقيل ليس فقط لكي يحسن ويطور من عمله ولكن لكي يجد فرصة للعمل المناسب اصلاً ، فالوسط المعماري مليء بمن يجيد ” الإتجار ” بالمهنة وهؤلاء يتحملون قدر كبير من وزر إفساد الذوق العام وانحدار النتاج البنائي . وعلى المقابل هناك البعض من “المجاهدين ” الذين يحاولون أن يعملوا بجد ويسبحون عكس التيار حرفياً فلا أقل من أن ندعم بعضنا بعضاً ونشد من أزر كل من يجاهد ويتمسك بمبادئه ولا ينساق وراء التيار “التجاري” فيكون هذا التقدير الأدبي بمثابة دعم معنوي يجنبهم القنوط أو السقوط وسط الزحام.
محمد الرافعي ، 2 ديسمبر 2019