PLACE VERSUS SPACE الحيز والفراغ
تأملات جالت بذهني حينما شاهدت هذا الرجل يصلي تحت ظل شجرة وجلست أفكر كيف شعر هذا الرجل بحالة السكينة والطمأنينة التي أوصلته للخشوع وترك الدنيا ليصبح في معية الله فيناجيه ويتعبد إليه؟
هل عبادة الصلاة ترتبط ارتباط شرطي بالفراغ المادي؟

مسجدك في قلبك وإن كنت تصلي في العراء أو تحت ظل شجرة

في تقديري الخاص الإجابة “لا” ، فأنا أرى أن المسجد هو في الأساس حيز روحاني ومعنوي قبل أن يكون فراغ مادي وإلا ما كنا قرأنا حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال:
” ….. جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل…..”
هذا الأمر يقودني لنظرة أشمل وأوسع عن مفهومي “الحيز” و “الفراغ” والعلاقة بينهما فالحيز في تقديري هوما يمكن أن نستشعره بأرواحنا ولا يحتاج أن تلمسه أيدينا أما الفراغ فهو يخاطب غالبا حواسنا لكي ندرك أبعاده المادية وقد يصل لقلوبنا ويمس أرواحنا وقد يقف عن حدود حواسنا الخمس فقط. فكل فراغ بداخله “حيز” ولكن ليس شرطاً أن يصبح كل حيز يمثل فراغاً.
الحيز قد ينشأ تماما في قلوبنا أو في مخيلتنا بصورة مجردة من أي تعبير مادي أو قد يحتاج فقط لعلامة أو (علامات) مادية بسيطة ننسج من حولها عالم آخر غير مادي أو ملموس متغير الشكل والحدود فقد تشكل جذوع أربعة نخلات متجاورات حيزا يصلح لأن يكون “نصبة” بيع في قرية أو جلسة خارجية في حديقة أو حتى مرسم لفنان في الهواء الطلق، والذي يصلي أسفل ظل شجرة يصبح هذا الظل هو مسجده ومحرابه حتى أنه قد يخلع نعليه ليجلس في مسجده هذا في حال طاهرة تسمح له بممارسة عبادته في سكينة وخشوع. والذي يصلي ويضع أمامه “سترة” قد تكون عصا أو زجاجة مياه أو يخط خطاً على الأرض لكي لا يمر أحد من أمامه فيفسد عليه صلاته وكأنه يصنع لنفسه فراغ خاصا مؤقتا يقتطعه من الحيز الذي يصلي فيه مصداقاً لقول رسولنا عليه الصلاة والسلام: ” إذا صلى أحدكم ،فليصل إلى سترة، وليدن منه و كأن المصلي يملك هذا الفراغ والحيز حتى يفرغ من صلاته. ومن يجلس مستندا لعمود بالمسجد ليقرأ القرآن قد تصبح هذه البقعة هي صومعته ومحل اعتكافه وهو ما نشهده كثيرا في أوقات الاعتكاف في شهر رمضان حيث تتحول أعمدة المساجد إلى صوامع افتراضية للعابدين والذاكرين من المعتكفين. وإذا ما تأملنا الأطفال حينما يلعبون الكرة في الشارع فنراهم يضعون حجران متباعدان فيصبح الحيز بينهما هو المرمى التخيلي دون أن يحتاجون لوجود مرمى حقيقي من إطار معدني وشباك والغريب أن بمجرد وجود هاتين “النقطتين” يصبح هناك تصور ثلاثي الأبعاد عند الصبية بوجود المرمى حتى أن بعضهم قد يصيح مثلا ليعلن لرفقائه بأن الكرة قد كانت أعلى من المرمى ولا تحتسب هدفا بمجرد أن يقول كلمة “هاي” التي تعني High بالإنجليزية أي أنه قد صنع له خياله ارتفاع محدد لهذا المرمى الوهمي !!!!!! والمتأمل لطلاب العلم الذين يتحلقون حول شيخهم الذي يجلس مستندا لعامود في المسجد يصبح هذا الحيز هو فصلهم الدراسي وتجدهم إذا ما اقتربوا من هذا الفصل الافتراضي يخفضون صوتهم كاستجابة من فطرتهم بأنهم قد أصبحوا داخل هذا الحيز ولذا وجب عليهم الصمت والحفاظ على حالة الهدوء والإنصات.
المدهش حينما نتذكر قول شيخ الإسلام بن تيمية :” ماذا يفعل أعدائي بي إن جنتي في صدري إن سجنوني فسجني خلوة…..” فهذا قد يجعلنا نتصور أن الإنسان لديه القدرة أيضاً ليس فقط نسج الفراغ بصورة غير مادية بل تحويل الفراغ المادي الملموس لحيز افتراضي يشعر فيه بالطمأنينة.

الأمثلة كثيرة وجدتها في حياتنا جعلتني أصل لقناعة بأن الخالق سبحانه وتعالى قد أودع هذا الأمر في فطرتنا توطئة لما قد نلقاه في الجنة بإذن الله والتي وصفها سبحانه وتعالى بكونها بعرض السموات والأرض ، ووضع فيها قصور وبيوت وغرف وخيام جميعها على مد البصر وأصغرها كما وصفها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه حين قال : ” إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً ، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً” ، هذه الستون ميلا يعني تقريبا مائة كيلومتر من مقياس دنيانا فكيف هو حال من يعيش في فراغ بهذا المقياس الهائل؟؟!
اتصور أنها ليس شرطا أن تكون على الهيئة الفراغية المادية التي ندرك بها الأشياء في دنيانا الآن بل ستكون مدركة بصورة ما بأرواحنا وعلى الهيئة التي تشكلها مخيلتنا التي سوف تستطيع حينها أن تقتطع منها ما يشعرها بالحيز الخاص الذي تستكين فيه النفس ولا تشعر بالغربة أو الضياع.
أنا لا أقصد بكلامي هذا أن نترك التصورات المادية لعمارتنا وراء ظهورنا أو أن نستغني عنها فنحن بلا شك نحتاج للحماية في بيوتنا وفي مبانينا من المخاطر المحيطة بنا ولكن نحن لم نخلق لنترك الطبيعة وراء ظهورنا ونعيش في بيئة مبنية تفرض علينا وجود مادي يخاطب حواسنا المادية فقط طوال الوقت ولكن ما قصدته هو أن الطبيعة تصلح لأن تكون المرادف اللامادي للفراغات التي توفرها الأبنية. أتصور أن طرحي الفلسفي هذا قد يقودنا لأن نراجع نظرتنا التصميمة للفراغات بصفة عامة ولعلاقتنا كبشر بالطبيعة من حولنا بصفة خاصة وقد تساهم هذه النظرة في إعادة تعريفنا للفراغ من منظور غير مادي ومندمج أكثر مع الطبيعة وأتصور أن إعادة التعريف هذه قد تسهم في إعادة الروح لفراغاتنا وقد تغير من تصوراتنا الخاصة بتصميم الكثير من المبان كالمساجد والأسواق والمدارس لتصبح أكثر قربا من إنسانيتنا وطبيعتنا كبشر.
محمد الرافعي، 10 مارس 2023