الصدق في العمارة
كلما شاركت بنشر أحد المشروعات التي أقوم بتصميمها مع فريقي التصميمي، في إطار محاولاتنا المستمرة لتحقيق مفهوم “العمارة الصادقة” الذي كنت قد طرحته منذ أكثر من ثلاث سنوات، ترد الي أسئلة كثيرة حول ماهية المفهوم؟ ومعاييره، والبعض يسأل عن احتمالية وجود عمارة “كاذبة” أو غير صادقة و يسأل : كيف هي؟ ولأجل هذا قررت أن أوضح في هذا المقال رؤيتي التي صككت من خلالها هذا المصطلح.
“العمارة الصادقة” وفق رؤيتي لها، تستند إلى دعامتين أساسيتين: الأولى معيارية ذات أبعاد مقاسه -إلى حد ما- ويمكن تتبع نسب تحقيقها، والثانية غير معيارية وترتبط ببعد غير مادي، إذ يمكن فقط الشعور بتأثيره ولا يمكن قياسه بصورة ملموسة.
الدعامة الأولى، تضع في اعتبارها منظومة من الأبعاد المعيارية المرتبطة بها كالتالي:
البعد الاقتصادي:
لا شك أن لكل مشروع محدداته الاقتصادية والتي يجب على المعماري الالتزام بها، فنادراً ما تكون هناك ميزانيات مفتوحة للمشروعات، وحتى إن كان الأمر كذلك، فالمعماري يجب أن يكون شخص يؤتمن على أموال المالك ويجب عليه المحافظة عليها كماله الخاص، والأمر لا يتوقف عند حدود ما تقوم به الهندسة القيمية من دراسات توازن بين التكلفة والفائدة وتحقيق الوظيفة باقل تكلفة وحسب، بل هناك بعداً آخر متخطياً قليل من يفكر به ويأخذه في الإعتبار، ألا وهو تحقيق قيم مضافة من وراء المشروع تستطيع أن تساهم في دعم منظومة الاقتصاد الأكبر الخاصة بالمجتمع، كخفض نسب البطالة، وتكثيف فرص العمل، أو تقليص الحاجة للاستيراد بالعملات الصعبة، ودعم التصنيع المحلي وهكذا، فالأموال التي يتم ضخها للبناء هي من الضخامة بالقدر الذي يمكنها من دعم قضايا اقتصادية نافعة مثل عدالة توزيع الثروة، والتحرر من سيطرة الرأسمالية الجشعة، وخفض معدلات الفقر، وتحقيق العيش الكريم لأكبر شريحة ممكنة من الأفراد في المجتمع.
البعد الاجتماعي:
العمارة وعاء حاوي لجميع أشكال الحياة تقريباً، والمراقب لمجتمعاتنا سيجد أنها – مع الأسف – باتت تعاني كثيراً من أنماط حياتية تنحسر فيها العلاقات الاجتماعية إلى أدنى مستوى، حتى باتت كثير من مدننا تحتضن “تجمعات” بشرية بأكثر منها مجتمعات مترابطة، والعمارة ليس بإمكانها فقط وقف هذا التدهور في العلاقات الاجتماعية بل يمكنها لعب دور عظيم في تصحيح هذا الوضع وتعزيز الروابط وتقويتها مرة أخرى، فتصميم حيزات تحفز التفاعل بين الناس بصورة إيجابية لهو أحد أبسط النماذج على ما يمكن أن تقدمه العمارة في هذا الصدد.
البعد الثقافي:
نتحدث كثيراً عما نسميه “الغزو الثقافي” ومظاهره وانعكاساته على حياتنا، ولا نتحدث عن كيفية مجابهته وحماية عقول مجتمعاتنا من شروره، ويكثر الحديث عن “الهوية” وحتى الآن لا يوجد اتفاق حول معاييرها !!!!! فالهوية ليست مجرد مساحيق سطحية يتم اصباغها بمفردات بصرية على واجهات المبان، فالأمر يحتاج إلى ما هو اعمق من ذلك، فنحن نواجه غزو يستهدف دعائم ثقافتنا في ديننا ولغتنا وعاداتنا وتقاليدنا، ولهذا أصبح لزاماً علينا أن نصنع عمارة تتمسك بثوابت هذه الدعائم، ومقاومة المحاولات المستمرة لتمييعها والنيل من الدور الحيوي الذي تلعبه في صون هويتنا.
البعد البيئي:
لا شك أننا تيقنا تماماً من أهمية البيئة الطبيعية لضمان ديمومة الحياة والأنشطة التي نقوم بها على هذا الكوكب، وأصبح من نافلة القول الحديث عن أهمية صيانتها والحفاظ عليها، فحياتنا مرتبطة تماماً بجودتها وصحتها، وأصبحت ثلاثية “التدوير، التقليل، إعادة الاستخدام” ملزمة لنا جميعاً، ولكن هل الأمر يقف عند مجرد حدود الحفاظ؟ أم أنه يتعداه إلى الاحترام والمشاركة، فالطبيعة ليست دائماً طرفاً أصم أو منظر جميل يتم توجيه الرؤية إليه، بل في أحيان كثيرة قد يمكنها أن تكون بطل رئيسي في المشروعات وليس مجرد خلفية جميلة للصورة.
البعد التقني:
النظام الإنشائي لكل مشروع يفرض منظومة من التقنيات المستخدمة، ومن المنطقي أن تتوفر هذه التقنيات والخبرات التنفيذية لها في نطاق المشروع كي يساهم في زيادة فرص العمل وتعزيز تراكم الخبرات المحلية، فالاعتماد الدائم على التقنيات والخبرات الخارجية يقضي على فرص التطوير الذاتي للمجتمعات المحلية ويحبس طاقات ابنائها، وهذا الأمر نعيشه كثيراً في بلادنا العربية حيث تتعطل طاقات شبابنا بسبب استيرادنا للتقنيات والخبرات الأجنبية، ولا نمنح لأبنائنا الفرص المناسبة كي يطوروا تقنيات محلية خاصة بنا ويراكموا خبراتهم المرتبطة بها، الأمر لا يجب وأن يتوقف عند هذا الحد بل يجب وأن يتعداه إلى استعادة كافة ما فقدناه من حرف وتقنيات مرتبطة بالبناء ولو على سبيل الحفاظ على تراثنا الغير مادي المتمثل فيها، واتاحة الفرصة أمامه ليؤدي دوره من جديد في توفير حلول معاصرة وفعالة.
البعد الجمالي:
العمارة والجمال من المفترض أن بينهما رباط لا ينفك، فخلق الجمال واتاحته للجميع من أساسيات “جودة الحياة” ، وصنع الجمال أمر لا يتطلب “الافتعال” أو “التحذلق” بل الأمر أبسط من ذلك، فكثيراً ما أشرت إلى المعجزة الربانية التي أودعها الخالق سبحانه وتعالى في وجوهنا نحن البشر والتي تتشكل ملامحها من عناصر ثابتة ومحدودة العدد ( عينان، وأنف، وفم، وجبهة، وأذنان، ووجنتين، وذقن) وجميعها تحكمها قوانين تشكيلية أيضاً ثابتة، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد خلق من تلك العناصر البسيطة توليفات لا نهائية من الملامح، وجعل كل تلك المليارات من البشر تحمل وجوهاً متباينة، وهذا درس لنا كمعماريين يفيد بأن الإبداع ليس بالضرورة أن يتحقق من خلال خلق مفردات بصرية جديدة، بل قد يكمن في مجرد صياغة جمل مبدعة باستخدام نفس المفردات البصرية.
البعد التنموي:
العمارة حينما تكون صادقة يكون بإمكانها أن توطن حرف وصناعات ومعارف وتقنيات تعود بالنفع على المجتمع، واستهداف التنمية من وراء البناء هو أحد صور القيم المضافة التي يمكن أن تتحقق من المشروعات، والتنمية في أساسها هي الارتقاء بحياة البشر ومنحهم الفرصة لتحقيق الذات، وهذا الدور لطالما لعبته العمارة في مشروعات كثيرة لعل أحدها هو مشروع قرية الجرنة الذي استطاع في اطاره استاذنا العبقري حسن فتحي – رحمه الله – أن يوظف العمارة فيه لترتقي بحياة أهلها اقتصادياً وصحياً وتعليمياً.
البعد الإنساني:
العمارة إن لم يكن محورها الإنسان فلا قيمة لها بل وتتحول لتصبح مجرد “بناء”، والإنسان يحتاج لوعاء يحتوي روحه كما يحتوي جسده، وكنت سابقاً قد كتبت بأن العمارة هي “فن نحت الحياة” ، إذ أنها تلعب دورًا محوريًا في تشكيل حياتنا وتجاربنا، فهي ليست مجرد مبانٍ وهياكل، بل هي بيئة متكاملة تؤثر فينا بشكل عميق، ولها تأثير مباشر على صحتنا الجسدية والنفسية، فبأيدينا إما أن نمنح المستخدمين حياة مريحة وساكنة خالية من التوترومفعمة بالهدوء أو العكس، وهذه مسئولية ضخمة سوف نحاسب عليها أمام الله.
البعد القانوني:
التصميم الذي لا يحترم الاشتراطات والقوانين إما أنه لن ينفذ، أو أنه يتحول إلى وبال على المجتمع، وبالتالي فلا معنى نهائياً بل ومن غير الجائز أخلاقياً أن يتم الإلتفاف على القوانين والتشريعات المنظمة للبناء، وأي تجاوز لها قد ينسف صفة الصدق تماماً عن المنتج المعماري.
هذه الأبعاد توضع لها معايير بأوزان نسبية تتباين وفق اختلاف المواقع والمجتمعات المحلية المستهدفة بالتصميم، ويصبح على المعماري مسئولية اتخاذ القرار المناسب في تحديد مقدار تلك الأوزان ومدى تجاوب تصميمه معها.
بعد أن فندت الأبعاد المقاسة تبقى أن احدثكم عن الدعامة الثانية “الغير معيارية”، وهي مرتبطة بحالة الصدق والإخلاص عند القائمين على عملية النتاج البنائي بأكملها بدأ من التصميم وانتهاء بالتنفيذ، تلك الحالة التي تصبغ العمل بأكمله ويشعر بتأثيرها المتلقي، فالإنسان يستطيع أن يصبغ عمله بروحه ويتأثر نتاجه بكل ما يحمله من صفات، فالأمر يحدث دون قصد أو توجيه ونشعر به في كافة الفنون والعمارة ليست استثناء، فكم من مرة تجولنا في أحد المبان التراثية وشعرنا بحالة مدهشة من السكينة والراحة النفسية التي مهما حاولنا تبريرها والبحث عن مسبباتها المادية لم نفلح في التفسير؟ فلا هي بسبب دقة النسب ولا هي مستويات الإضاءة ولا هي بلاغة التشكيلات البصرية ….إلخ بل هي حالة نعيشها ونلمسها ولا نستطيع تفسير السبب من ورائها!!! الأمر تماماً كما يحدث حينما نشعر بنفس الراحة النفسية والسكينة حينما نستمع للقرآن الكريم من صوت قارئ يقرأه بقلبه لا بلسانه، أو حينما ننصت لخطيب مسجد يحدثنا بصدق فنشعر وكأن الوقت قد توقف ولا نريده أن ينهي خطبته لأن ما يتحدث به يخرج من قلبه فيدخل في قلوبنا كما نقول في بلادنا.
هذه الحالة من الاخلاص والتفاني والصدق التي يعيشها كل من المصمم والبَنَّاء والمالك، هي التي تنعكس في البناء وتصل إلينا فنشعر بها ولا نستطيع قياسها.
بالإرتكاز إلى كلا الدعامتين يصبح بمقدورنا خلق عمارة صادقة تنجح في احتواء البشر مادياً ومعنوياً وتستطيع أن تعكس جذور ثقافتهم وتستجيب لتطلعاتهم في تناغم تام مع السياق المحيط والبيئة الطبيعية ويكون لها هدف واحد تحققه ألا وهو “جودة الحياة “، وتستحق أن تبقى لتصبح تراثًا لمن يأتي بعدنا.
إن الصدق في العمارة يجعلنا لا نبني حائط سميك إلا لأنه حائط حامل، ولا نبني عقد إلا لأنه يعمل كعتب أو يشكل فتحة ولا نبني قبة إلا لتكون بديل عن السقف الخرساني، ولا نستخدم خامة التربة إلا لنبني بها كلبنات طوب بتقنيات محلية، ولا نبني برج هواء إلا ليعمل وفق منظومة للتهوية والتبريد بالطاقات السالبة ولا نضع روشان إلا ليعمل كجلسة ضمن الفراغ الداخلي، ولا نشكل فناء سماوي إلا ليكون مطل داخلي للفراغات يوفر الخصوصية، ولا نخلق نسيج متضام إلا لتوفير الحماية من الظروف المناخية ولا نجعل المسارات ضيقة إلا لتوفير الظلال ولا نصمم برجولات إلا لتقي من الشمس…فعلى الرغم من إيماني الشديد بأهمية استخدام المفردات البصرية المعبرة عن أهل المكان والتي هي بمثابة بصمة مرتبطة بهويتهم إلا أنني أؤمن أيضاً بأهمية الصدق في استخدام وتوظيف تلك المفردات.
قبل أن أختتم مقالي علي أن أؤكد أن العمارة الصادقة لا ترتبط بخامة بناء بعينها، أو تقنية إنشاء محددة، أو مفردات بصرية خاصة، بل ترتبط برؤي رصينة صادقة وجهد مخلص يقفان خلف صياغتها، والمعماري فيها يكون مسئولاً أمام مجتمعه في طرح حلول جادة ومتزنة لمشكلاته وقضاياه التي قد تلعب العمارة دوراً ايجابيا في تناولها.

لقد أرفقت هاتين الصورتين لمشروعين يقعان في نفس البقعه الجغرافية ولهما نفس الوظيفة، وكلاهما قد زرته وتجولت به، ولكن أحدهما شعرت بصدقه وبأنه يعبر عن العمارة الصادقة، والآخر وجدت أنه لا يسري عليه هذا المصطلح.
محمد الرافعي، 30 مايو 2025