القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا

المقال الثالث – التراث فوبيا

في عالمنا الذي نعيشه الآن ونؤتمن فيه على ميراث ألاف السنين من التجارب الحياتية الحضارية التي صنعها الإنسان بوجوده على هذا الكوكب يوجد نموذجان من المعرفة لا ثالث لهما :
 

النموذج الأول – معرفة متوارثة نتجت عن تراكم خبرات أسلافنا المتعددة من خلال تجاربهم الهائلة التي خاضوها عبر العصور المتعاقبة وتوارثتها الأجيال ووصلت إلينا في صورة نتاج مادي ملموس من مبان وأدوات و آخر غير مادي من حرف ومهارات وتقاليد وأعراف بعد أن مرت جميعها عبر مراحل هائلة من التنقيح والإنتخاب الطبيعي وفحص الملائمة ومرشحات الخطأ والصواب حتى وصلتنا بصورتها الأخيرة حاملة معها كل هذا الكنز المعرفي الضخم وتمثلت في صورة ما نسميه في المجمل بالـ “تراث”.

النموذج الثاني- معرفة مبنية على نتائج التجارب والأبحاث المستندة إلى الطفرة العلمية الحديثة التي قادها العالم الغربي خلال المائتي عاما الماضيين تقريبا والتي نشهد تطورها بمعدلات متسارعة ومتلاحقة الآن علما بأنها استندت في بدايتها على ما انتهى إليه الزخم المعرفي للنموذج الأول.

في مجال العمارة والعمران كان هذا الأمر يثير قضية جوهرية حول مدى عقلانية تجاهل “التراث ” تماماً كنتاج للنموذج الأول وإهالة التراب عليه لصالح منح الثقة التامة للنتاج “الحديث” للنموذج الثاني!!!!!! وهي القضية التي قد طرحت أول مرة في صورة تساؤل من ضمن ما طرح في مؤتمر استوكهولم 1972 حينما شعر الغرب بأن خطأ ما فادحا قد ارتكبه بجنوحه الشديد نحو المادية المفرطة والاستنزاف الهائل للثروات الطبيعية والتلوث الشديد الناتج عن صناعاته والتدهور السريع لمقومات الحياة الإنسانية على كوكبنا وبدت تتكشف له الإجابة بصورة واضحة خلال العقود القلية الماضية بأنه من المحتم العودة للتراث المعرفي ونتاجه البنائي التقليدي والتماس الحلول المناسبة منه حيث لا يمكن لأي عاقل أن يهمل كل هذا الميراث العظيم وحصاد ألاف السنين المختزنة به لصالح عقود قليلة من المعرفة البحثية إذ ولا بد من حدوث تزاوج بين الأثنان ودعم المزج بينهما حيث أصبح من المعترف به أن العمارة التقليدية التراثية تنطوي على بعدين أساسيين يميزانها وهما:
 
1- الاستدامة واحترام البيئة الطبيعية
2- احترام السياق المحلي الثقافي والاجتماعي الخاص بالمجتمع والاستجابة لمحدداته وضوابطه
 
لقد خاصمت العمارة “الحديثة ” البعد الثاني في غالبية نتاجها إذا أن أهدفها دائما ما تنصب على الأبعاد الوظيفية والتقنية والاقتصادية ومؤخرا “البيئية” وهذا ما عبر عنه الدكتور فلاح جبر في مقاله بعنوان “الذاتي والموضوعي في عمارة الحداثة وما بعد الحداثة ” حين قال:
“إن التركيز على السياق الوظيفي والتكنولوجي وارتباطه بمفهوم الموضوعية المعمارية بعيدٌ عن السياق الثقافي والحـضاري، قد أدى ذلك إلى ابتعـاد عمـارة الحداثة عن الانسجام والتفاعل مع المجتمع والسياق الحـضاري الذي تظهر فيه، بمعنى أنها أخفقت في تواصل عمارتها وما سبقها من تقاليد وموروث حضاري”.
وعبر عنه أيضا منقال منشور بموقع استاذنا الدكتور عبد الحليم إبراهيم بعنوان “العمارة الاجتماعية والصديقة للبيئة ” حيث يذكر التالي:
 
“…….أدى ذلك في كثير من الحالات إلى فقدان هوية المكان التاريخية، وجعل المعيارية الأولى في تقييم نجاح المشروع المعماري في قيمته الاقتصادية، دون اهتمام كبير بما هو متعارف عليه من تصورات تقليدية للجمال والتراث. بل بات النظر إلى الجمال مرهونًا بمدى الكفاءة الاقتصادية والوظيفية عند المعماريين الحداثيين، مع أن مفهوم الجمال عادةً ما يكون متسامي عن المنفعة، إلا أن الحداثيين يرون أن الكفاءة والعملية والمنفعة القصوى هي الغاية…”
 
لقد توصل الغرب في أوروبا لهذه النتيجة بعدما مر بمراحل عدة ابتدأها عقب الحرب العالمية الثانية حينما شعر بقلق شديد تجاه فقدان مدنه التقليدية للكثير من كنوزها التراثية بسبب الحرب التي دمرت العديد من مبان تلك المدن وتركتها في حالة من الخراب، وكان هناك حاجة ملحة لإعادة الإعمار وانصب التركيز على استعادة التراث المعماري الذي تم تدميره كما هو وإعادة بناء المباني التاريخية والمناطق الحضرية باستخدام مواد وتقنيات البناء التقليدية حيث كان يُنظر إلى استعادة الهندسة المعمارية قبل الحرب كوسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية وإعادة بناء الشعور بالانتماء للمجتمع بعد صدمة الحرب ثم تلت هذه الفترة ظهور تيارات معمارية حداثية تتبنى اتجاه معاكس تماماً وتتمرد على كافة القيود وتنتهج منهج ثوري تجريبي الأمر الذي أدى لظهور مصطلح متلازمة “بروكسل Brusselization” وهو مصطلح استخدم لوصف فترة من التحضر والتحديث السريع في تلك المدينة البلجيكية خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حيث تمت صياغته لوصف الهدم الواسع النطاق للمباني التاريخية وتشييد المباني الشاهقة الجديدة في المدينة وهو الاتجاه الذي تعرض لانتقادات شديدة بسبب أسلوبه المعماري وتأثيره السلبي على الطابع التاريخي للمدينة.
لقد جادل النقاد الأوروبيون بأن تشييد هذه المباني دمر التراث الثقافي للمدينة وهويتها مما أفضى في النهاية إلى إنشاء لوائح بناء أكثر صرامة في بروكسل والكثير من المدن الأوروبية الأخرى وأضحى إرث “بروكسل” بمثابة قصة تحذيرية لمخططي المدن، والمطورين، وصانعي السياسات في أوروبا، حيث يذكرهم بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي للمدينة مع تعزيز التنمية الحضرية المستدامة أيضًا.
أدى هذا التركيز على التراث الثقافي إلى وضع القوانين واللوائح التي تهدف إلى حماية المباني التاريخية والمناطق الحضرية ونتيجة لذلك، أصبح تشييد المباني الجديدة، وخاصة المباني الشاهقة، خاضعًا لأنظمة صارمة تعطي الأولوية دائماً للحفاظ على التراث الثقافي.
 
لقد بات العودة للتراث والاستعانة بدراسة حلوله وتوظيف أنساق البناء التقليدي يمثل تياراً قويا في العالم المتحضر الآن وينظر إليه كوسيلة للتغلب على التحديات التي يواجهها العالم حسبما ذكر أحد التقارير الحديثة المنشور على موقع قناة الجزيرة الإنجليزية بتاريخ 7 ديسمبر 2023 والذي جاء بعنوان :
Can traditional architecture help build a ‘more resilient future’?
وقد جاء في التقرير ما نصه كالتالي:
 
” بينما تؤكد المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة أن عام 2023 سيكون “من المؤكد تقريبًا” العام الأكثر سخونة على الإطلاق، فإن الإمكانات التي توفرها العمارة التقليدية تكتسب اهتمامًا دوليًا – لقدرتها على السماح للبشر بالعيش في عالم أكثر حرارة وفي نفس الوقت لها تاثير منخفض على هذا الكوكب”.
 
لقد بدأت مدارس العمارة في جامعات مختلفة حول العالم تدريس العمارة التقليدية لتحقيق تلك الأهداف ففي في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، على سبيل المثال، هناك دورة تدريبية حول التصميم المستدام والممارسة في العمارة الأمريكية التقليدية وهي موجهة بشكل خاص إلى “استكشاف موقع ومسؤولية التصاميم التقليدية في مكافحة تغير المناخ”. وفي كندا، أطلقت كلية الهندسة المعمارية بجامعة كولومبيا البريطانية مؤخراً برنامجاً حول تخطيط وتصميم مجتمعات السكان الأصليين، مما يدل على الاهتمام العالمي المتزايد بتقنيات البناء التقليدية.
 
أحد المنشورات المنشورة على صفحة New Traditional Architecture حيث تبتهج صاحبة المنشور بإزالة المبنى الحديث “القبيح” وعودة مبنى قصر برلين التراثي في موقعه
 
والمتابع للنتاج البنائي المعاصر في الدول الأوروبية سيكتشف أن هناك توجه قوي حاليا ليس فقط لبناء مبان حديثة بأنساق ونظم إنشاء تقليدية ومواد بناء محلية وتشكيلات وتعبيرات بصرية تراثية بل المدهش حقيقة هو استبدال المبان المنتمية لفترة “الحداثة” بأخرى جديدة تستخدم الأنساق والتعابير التشكيلية التقليدية وأرفق لكم مع هذا المقال صور لنماذج لتلك المبان وأضع لكم أيضا رابط لأحد الصفحات التي أنشأها أحد المعماريين الألمان على منصة الفيس بوك لتجمع مفتوح يشارك فيه أعضاؤه نماذج من المشروعات التي تتبنى هذا التوجه تحت عنوان New Traditional Architecture ويوجد به العديد من المشروعات المنشورة التي بنيت حديثا بأنساق تقليدية وهو ما يؤكده حواري مع الدكتور فيصل حميد أستاذ التصميم الحضري بمانشستر ببريطانيا عام 2022 حين قال لي التالي :
 
” في بريطانيا معظم الأبنية يتم بناؤها باستخدام المواد التقليدية من خشب وطابوق وصخور الى ارتفاع ثلاث طوابق. وأحيانا يدخل الحديد في تقوية الهيكل عند ازدياد الارتفاع أما الخرسانة المسلحة لا تستعمل إلا في الأبنية التجارية الكبيرة والمرتفعة ولكن نحن فقط منبهرين بمنتج نجوم العمارة وهي حلقة ضيقة جداً من المشهد المعماري الغربي، أي أننا انتقائيين بماذا نريد أن ننبهر. ليتنا ننبهر بالتجارب الإسكانية التي تستخدم المواد المحلية مثل مدينة باوندبري. “
الحداثة هي ما تصممها للآخرين ولا تقبل أن تعيش أنت فيها ، هذا ما علق به أحدهم على المكان الذي يقطنه المعماري Rem Koolhaas – من موقع New Traditional Architecture
 
في مقابل هذا المشهد الحادث في العالم الغربي وموقفه الإيجابي من الكنز التراثي بشقيه المادي واللامادي نجد مشهد معاكس تماما في عالمنا العربي يصيبني بالحزن والتعجب يتمثل في وجود تيار كبير من زملائنا المعماريين ممن ينتفضون بشدة أمام أي محاولة لاستلهام الأنساق التراثية من عمارتنا التقليدية ولديهم حساسية شديدة نحو أي ملمح يرتبط بالتراث من قريب أو من بعيد ولا سيما ما يرتبط ب “الأنساق” وليس “الأشكال” و في المقابل تجدهم يغضون الطرف عن الكثير من الأنساق الغربية المستوردة بالكامل مثل “الأنفتاح للخارج” بدلا من التوجيه للداخل و“التنميط المديولي” بدلا من البائكة و “توظيف الخامات الصناعية” بدلا من الخامات الطبيعية و “التبسيط المنزوع الهوية” بدلا من مفردات بصرية محلية….إلخ ؟ ودائما أتسائل لماذا لا نجد أي أثر لمقاومة من هؤلاء الزملاء المنتميين لهذه المدرسة الفكرية لأية تصاميم دخيلة تماما على مجتمعاتنا ومستنسخة بالكامل لأنساق ومفردات غربية غريبة علينا؟ وتشعر بأن موقفهم من التراث هو موقف الخوف الغير مبرر “فوبيا” والتوجس الدائم من فكرة العودة للوراء تحت مزاعم مختلفة مثل أن هذا لا يتناسب مع اساليب وأنماط معيشتنا الآن أو أنه مكلف وغير اقتصادي وأحيانا بدعوى أنه لا يتوفر له العمالة أو الحرف وينطوي على تعقيدات تنفيذية !!!!!!!! جميعها حجج تشعر أن صاحبها يسوقها لأنه لم يكلف نفسه عناء التعمق في دراسة ما يعرض عليه وأنه يتخذ رد فعل عاطفي بأكثر منه منطقي عقلاني أو مهني.
هم لا يرون في التجارب المعمارية المحلية والتي حاولت استلهام انساق تراثية محلية أية موضوعية وحكمهم عليها دائما أنها عمارة شكلية فارغة من المضمون والخبرات وكأنهم لا يعترفون بجهد استاذنا الراحل عبد الحليم إبراهيم رحمة الله عليه في في مشروعه “حديقة الأطفال الثقافية بالسيدة زينب” الحاصل على جائزة الأغاخان ورؤيته لتنمية المجتمع المحيط به من خلال عمليات البناء بالأنساق والخامات التقليدية في صياغات جديدة !!!!
وهم لا يعترفون بجهد العبد لله المبذول عبر 33 عاما في تجربتي الخاصة لارساء منظومة كاملة للبناء بتربة الأرض بتقنيات حديثة ومعاصرة تصلح كأداة لتنمية المجتمعات وحل اشكالية الإسكان والبيئة من خلال توظيف أنساق تقليدية بعد تطويرها فضلا عن ارساء صناعة محلية لخامة بناء يمكن الاعتماد عليها هندسيا !!!
وهم لا تغير موقفهم التجارب الرسمية الحديثة التي تتم الآن لاستيعاب الأنساق التقليدية في بناء المساكن المعاصرة كالتي تتبناها مدينة الرياض في حي الدرعية التاريخي تحديدا حيث أن كود البناء الجديد هناك يلزم المصمم بالانفتاح للداخل نحو فناء سماوي وهو ما أظنه نجاح باهر للمقترح الذي كنت قد قدمته منذ 18 عاما للمسكن السعودي الميسر والذي فاز بالجائزة في المسابقة التي نظمتها هيئة تطوير الرياض في عام 2004.
ولا يستغرب موقفهم هذا من كل هذه التجارب فهم في الغالب فوق كل هذا وذاك لا يرون أي أثر ملموس لنجاح النهج والفكر المعماري الذي أسس له استاذنا حسن فتحي وهو عراب هذا التوجه ورائده ليس فقط على المستوى المحلي بل على المستوى الدولي أيضاً!!!.
 
لا أدرى لماذا فرطنا في هذا الإبداع المذهل وارتضينا أن نصنع الصناديق الخرسانية والزجاجية!! – سكة القبوة بخان الخليلي بالقاهرة
 
حينما تسألهم عن موقفهم هذا يجيبون بأنهم لا يرفضون التراث وليس لديهم تحفظات بخصوصه ولكنهم في ذات الوقت لا يستسيغون توظيفه بأي صورة من الصور وبموقفهم هذا هم لا يبالون كثيرا لو اندثرت حرفة بناء القباب والأقبية تماما من بلادناً ما دمنا نستطيع أن نبني أسقف خرسانية معزولة بمواد صناعية ولا يبالون لو اختفت حرفة نحت الأحجار كذلك ما دام لدينا بدائل صناعية حديثة تفوق الحجر في متانته ولا يهتمون لو اختفت مهنة النوافذ الجبسية مع الزجاج الملون ما دام لدينا إمكانية صنعها بالجي أر سي على الرغم من أنهم على علم تام بأن هذه الحرف التراثية يعاني أصحابها من ندرة فرص العمل وبالتالي فأن النتيجة الحتمية المترتبه على ذلك هي انصرافهم عنها شيئا فشيئا حتى يأتي اليوم الذي نجد فيه هذه المهن والحرف قد اصبحت أثراً من بعد عين فهم باختصار لا يروا أي قيمة من وراء الحفاظ على التراث البنائي “الغير مادي” نظرا للإيمانهم بأننا انقطعنا عن تراثنا المتواصل عبر عقود طويلة وبالتالي لا معنى لمحاولة استعادته أو الاستفادة منه باي صورة فواقعنا الحالي “معدوم الهوية” حسب وصفهم إذ لا يرون من التراث سوى “صوره” ولا تنفذ رؤيتهم لأعمق من ذلك ولا يجدون طائل من وراء تحليله في شكل أنساق يمكن إعادة تشكيلها وإعادتها للحياة بصورة فاعلة من جديد فالفناء الداخلي بالنسبة لهم مثلا لا يصلح مع قطع الأراضي بالتخطيط المعاصر الحالي لمدننا على الرغم من أن الكثيرين منا قد ترعرع في بيوت أحتوت على حوش أو فناء داخلي مفتوح للسماء به نباتات تلطف الجو وتطل عليه بعض من غرف المسكن ليوفر لها الخصوصية وبنيت جدارنها السميكة من الطوب الأحمر وكنا لا نشعر فيها بلهيب الصيف أو صقيع الشتاء وكان لها نوافذ ذات مصاريع خشبية تسمى “شيش” تحجب أشعة الشمس الشديدة من الدخول لفراغاتها ، و كانت مدارسنا على بعد دقائق مشيا على الأقدام أو بالدراجة في أقصى تقدير ولم نكن مضطرين لركوب السيارة لشراء حاجاتنا من السوبر ماركت حيث كان النسيج التقليدي يكفل أن تكون كل الخدمات قريبة منا والبقالات منتشرة في كل مكان وشوارعنا الضيقة المزروعة بالأشجار يوفر المشي في ظلالها تجربة حسية ممتعة هذه كانت بعض من ملامح العمارة والعمران التقليدي التي هجرناها ويدعي زملائنا هؤلاء بأنها باتت لا تصلح لحياتنا “المعاصرة” ! وهم يرون بأعينهم فداحة خسارتها ومعاناة مجتمعاتنا من جراء فقدانها!
والذي يزيد التعجب أكثر أن هؤلاء المنتقدين تراهم يتغزلون في الحواري القديمة بمدننا التراثية وبالمبان التارخية التي تحويها ويفتتنون بدقة التفاصيل وروعتها وبراعة الحرفة الظاهرة فيها ثم تجدهم في ذات الوقت يصمتون وأحيانا يبدون إعجابهم بمبان تخلو من التفاصيل وتفتقر للحرفة ولا تصلح إلا لأن تبنيها الألات وليس البشر!!!!
 
هذا في الحقيقة جل حصادنا من العمارة والنتاج البنائي في غالبية بلادنا العربية : “عمران بلا روح” حيث أننا في تقديري بات معظمنا يصمم لنبني مبان استهلاكية سيتم محوها بعد بضع عقود لأنها لا تحمل أي قيمة ولا تراعي أي شيئ مرتبط ببيئتنا الطبيعية أو الثقافية الاجتماعية ومنفصلة تماماً عن حقيقة هويتنا وأتصور أننا وبهذا الشكل لن نترك أي أرث بنائي حقيقي لأبنائنا “فالقديم هو ما استحق أن يبقى لكي يصير قديما” كما قال أستاذنا حسن فتحي وهناك فرق شاسع بين أن نبني لنصنع تراثا كأجدادنا أو أن نبني لسد الحاجة أو للاستثمار السريع والاستهلاك وجني الأرباح ومجاراة الموضه كما هو حادث الآن.
لا أدري إن كان زملائنا من المنتقدين ينتظرون حتى يأتينا التغيير مرة أخرى من الغرب بقوة ليعدلوا عن موقفهم أم أننا نستطيع ونقدر على إجراء المراجعة والتصحيح بأنفسنا هذه المرة ؟ وأقتبس هنا عبارة نقلتها عن أحد الأصدقاء قد سمعها من البوفيسور أوزجور اديز رئيس قسم العمارة جامعة أولوداغ في بورصه بتركيا حيث يقول :
 
“الغربيون يعطسون, ثم يشفون, وبعد زمن طويل تأتينا العطسة فيصيبنا المرض فنظنه الشفاء نظرا لمقدمه من الغرب, فنتمسك بالمرض ونرفض الشفاء.”
 
أتصور أن هذه المأساة ستظل جاثمة على صدورنا ولن تنقشع إلا بعدما نتخلص من هذا النفور وهذا الخوف الغير مبرر من الاقتراب من تراثنا المحلي وندعم التجارب الجادة التي تسعى لتوظيف أنساقه والإفادة منها عن طريق الثقة في المعماريين العرب وتوفير فرص تصميمية متنوعة لهم لتطوير أفكارهم فالمعماري الذي لا يحصل على فرص عادلة لتطوير أفكاره من خلال التنفيذ في الواقع لا تنتظر منه أن يصل لنتيجة حقيقية بمجرد الخيال على الورق.
 
محمد الرافعي، 29 ديسمبر 2023
 
رابط صفحة
New Traditional Architecture

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثاني

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثاني – الحائط الحامل   في المقال السابق تحدثت عن أول عنصر يثير الحساسية عند الكثير من المعمارين “الحداثيين” وهو السقف القوسي وتحديدا “القبة ” بسبب نظرتهم القاصرة إليه كونه تعبير بصري ويغفلون عن حقيقته كونه نسق إنشائي بيئي في الأساس وتأتي تعبيراته البصرية…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الأول

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الأول كلما نشرت تصميم وضعته لمبنى من المبان استخدم فيه النظام الإنشائي للحوائط الحاملة المبنية بالطوب “على اختلاف خامته” وتغطية الأسقف باستخدام القباب والأقبية أشعر أن هذه التصاميم تثير “الحساسية” لدى البعض فأتلقى تعليقات تنتقدها بذريعة أن هذا لا يمثل العصر وأن ما تطرحه…

العمارة وثقافة المكان……..محاولة لتعزيز الهوية

  العمارة وثقافة المكان……..محاولة لتعزيز الهوية     في إطار تكليفنا بتصميم مشروع فندق أربعة نجوم على قطعة أرض بمساحة 4900 متر مربع على ساحل البحر الأحمر في منطقة الحريضة التابعة لإمارة عسير بجنوب المملكة العربية السعودية فاجأنا ممثل الشركة المالكة بطلب مجلس الإدارة بأن يكون الفندق على الطراز “اليوناني”…

كن أنت القيمة أولاً

  …كن أنت القيمة أولاً   تلقيت رسالة من أحد شباب المعماريين التواقين للقيمة وكانت في صورة حوار كالتالي: هو : السلام عليكم حضرتك لو أنا عايز اتعلم أساسيات الديزاين واتعلم تصميم صح اخد كورسات معينة !؟ ولا كتب معينة أشوفها ولا أيه بالظبط لان معظم الدراسة عبارة عن قص…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP