خبيئة عمارة الحضارة الإسلامية – الجولة الثانية
مرة ثانية اكتب عن كنوز القاهرة الفاطمية المعمارية والعمرانية، تلك الخبيئة التي لا تزال مدارسنا المعمارية منصرفة عنها وتدير لها ظهرها ويأبى الكثير من اساتذتها أن يستخلصوا الدروس منها وينقلوها لطلابهم.
لعل هذه الجولة التي امتدت لحوالي ثمان ساعات تقريبا مشياً على الأقدام في صحبة نخبة من الصدقاء الرائعين والموسوعيين هي من أجمل ما حصلت عليه في زيارتي الأخيرة للمحروسة، وأردت هنا أن أوثق خواطري وأفكاري التي تدافعت إلى ذهني على مدار تلك الساعات الممتعة حينا والمحزنة أحياناً.
بنيان صامد يتحدى الزمان:
حينما دلفنا من باب النصر المهيب أخذت أفكر في كيف صمد هذا المنشأ الضخم الفاخر المزدان بنقوش غاية في الروعة والجمال ومنحوتة في خامة البناء الحجرية بصورة دقيقة تضاهي أحدث آلات الحفر الكومبيوتريه الحديثة؟
نحن أمام بناء عاش ما يقارب الألف عام واستطاع أن ينجو رغم ما لاقاه من صنوف شتى من الإهمال والتعديات الجائرة؟ هل هناك في عمائرنا المشيدة بالخامات والتقنيات الحديثة ما يمكنه أن يصمد كل هذه القرون؟
الحقيقة أن ما نشيده من بناء الآن وحسب تقديري الشخصي هو في عرف الزمان أشبه بالمبان “الاستهلاكية” المؤقتة مثلها كمثل باقي ما يحيطنا من عالم الأشياء. وإذا لم تصدقني أدعوك أن تنظر لمقتنياتك الشخصية بالمقارنة لمقتنيات أبيك أو جدك ستجد أن مقتنياتك بالنسبة لهما أشبه بالأشياء التي تستخدم للمرة الواحدة ثم يتم القاءها في سلة المهملات ليتم شراء غيرها كي تدور عجلة الاستهلاك وتستمر آلة الرأسمالية الشرهة في حصاد المزيد والمزيد من الأرباح على حساب كل شيء بما فيها مبادئ الاستدامة والتي تنهار أمام هذا الكم المهول من المنشآت التي لا تصمد إلا قليلا ثم يتم الاستغناء عنها بهدمها لتشكل عبء ثقيل على البيئة الطبيعية.
متى ولماذا تنكرنا للنسيج المتضام؟
قبل أن نخطط لجولتنا كان أمامنا خيارين إما أن نتجول في القرافة الشرقية أو أن نتجول في الجمالية وقصبة المعز، ثم استقر بنا الرأي على الاختيار الثاني لسبب وجيه للغاية وهو أننا كنا نريد اتقاء حرارة الشمس الملهبة والتمتع بالظلال الكثيفة في قلب حارات القاهرة الفاطمية.
لقد كان لنا ما أردناه واستطاع المقياس الإنساني الحميم لمسارات الحركة المتعرجة بسبب النسيج العمراني المتضام والقطاع التليسكوبي للمباني القائمة عليها والأحواش والأفنية الداخلية المنتشرة داخل كتل المبان أن توفر لنا جميعها بيئة مريحة حراريا وكم رائع من الظلال بل والنسيم البارد أحيانا الأمر الذي جعلني أندهش عن السبب المنطقي الذي جعل جميع مخططات مدننا الحديثة تهجر تماما هذا الحل العبقري الذي يوفره النسيج المتضام وتتبنى النسيج الشبكي المتعامد كحل أوحد ومطلق لكافة المخططات الرسمية! وبسببه أصبحنا نرزح جميعا تحت وطأة لهيب الشمس بعد أن احترقت بيوتنا من الحرارة واضطررنا إلى ما نعايشه الآن من “تخفيف” لأحمال الكهرباء حينما أصبحت شوارعنا العريضة المفروشة بطبقات الأسفلت السوداء والمفتقرة إلى الأشجار والمسطحات الخضراء مجرد “أفران” تنفث حرارتها وسط النسيج العمراني ويتلظى الناس بلهيبها في فصل الصيف.
من يتحمل هذه النتيجة البائسة التي وصلنا إليها بسبب هذه المخططات الغبية؟ لماذا لا نفيق ونسعى لتغيير أفكارنا للإيقاف هذا النزيف المستمر من الطاقة المهدرة في أجهزة التكييف؟ ولماذا لا يتم تطوير أسس ومبادئ مختلفة ومحلية وخاصة بنا للعمارة والتخطيط في بلادنا تبنى على تجارب من سبقونا وعاشوا وتكيفوا في هذه الرقعة الصحراوية من العالم لقرون عده؟
أذكر أننا وأثناء دراستنا في السنة الأخيرة بكلية الهندسة أن حدثنا أستاذنا الكبير الدكتور محمود يسري عملاق التخطيط في مصر عن عدة أبحاث قد أجريت لتوظيف وحدة “الحارة” بدلا من وحدة “المجاورة السكنية” كحل تخطيطي محلي مع تطوير حلول مناسبة لوصول السيارات لقطع الأراضي الداخلية دون أن تقطع مسارات المشاة وهو الأمر الذي رأيت تطبيقه عمليا في تصميم أستاذنا الكبير الراحل دكتور عبد الحليم إبراهيم في تصميمه لقرية بواحة الفرافرة وقمت أنا شخصياً بتطبيق نفس المبادئ في تصميمي لقرية نموذجية في منطقة توشكى.
الجمال يحيط بك رغم طبقات التراب…..
أينما وقعت عيناك على أي بناء تراثي في القاهرة الفاطمية تجد أنك لا تستطيع أن تطرفهما ولو للحظة حتى لا يفوتك أن تشبعهما من هذا اللحن البصري المنساب من الجمال.
جمال في نسب المبان وجمال في تكوين الكتل والعلاقة بين السد والمفتوح وجمل أنساق التعبير البصري وجمال مبهر في الزخارف والتفاصيل حتى تشعر بالافتتان وكأنك قد سافرت إلى قارة أطلنطس المختبئة.
الأمر لا يقتصر على استخدام أو وظيفة مبنى دون آخر بل تراه ظاهرا جليا في كل شيء في البيوت والوكالات والتكايا والمساجد والأسبلة والمدراس والمشرفيات والشرافات والحليات والأقواس والأرضيات…..إلخ إلخ ، حتى تكاد أن تصرخ مثلما فعل أرشميدس وتقول هذه ليست مبان بل قطع فنية صاغها نحاتين عظام رغم كل ما يعتري الصورة من تشوهات وتعديات وطبقات سميكة من التراب والهباب الأسود.
وأنت محاط بكل هذا الجمال المبهر لا تستطيع أن تملك نفسك لتسأل متى ولماذا أصبحنا لا نتذوق الجمال في مدننا ولماذا عم القبح في معظم زواياها؟ ولماذا حرمنا أنفسنا من هذا الاحتياج الإنساني الأساسي للـ “الحياة”. لقد شعرت حقيقة بالخجل من كون أجدادنا تركوا لنا كل هذا الجمال ثم أدرنا له ظهورنا وقررنا أن نستبدله بالقبح.
دائما ما أقول : “أننا أبناء ثقافة المنمنمات” وأن الآلة والصناعات الحديثة وما خلفهما من القوى الرأس مالية قد استطاعت أن تنحدر بذائقتنا حتى هجرنا معظم مواطن الجمال في أشيائنا ومبانينا وسيطرت علينا فكرة التبسيط حتى وصلنا لحد “الإخلال” واندثرت وتلاشت من بيننا فنون كثيرة كانت تمتع ناظري الأولين وليتنا اكتفينا بهذا الحد بل استمر انحدار ذائقتنا حتى اعتدنا القبح وأصبحنا لا نجد أي غضاضة في مطالعته ليل نهار في بيئتنا وداخل مدننا التي ندعي أنها “حديثة” !!!!!!!

ضرح السلطان المنصور قلاون- حينما يجتمع الفن والمهارة والدقة والإبداع ويمتزج جميعهم بهوية تشعرك بعبقرية المكان وأهله
الدقة دين وديدن الأولين……
سيلفت نظرك في كل شبر تطالعه أنه صنع بحب وتجرد ودقة فائقة وكأن صانعه قد ذابت روحه في منتجه كما كان يحدثنا أستاذنا الفنان حامد سعيد رحمه الله. الأمر ليس مجرد صانع يؤدي عمله أو حرفي يبني بناء بل الأمر تشعر وكأنه في حالة من الصوفية تجد فيها تطبيق عملي وواقعي للحديث الشريف : “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَه”
لقد كان كل شيء يعتمد على مهارة الإنسان لهذا اجتهد الجميع في اتقان عملهم إلى أقصى حد وأصبح هذا الأمر ملمح رئيسي في ثقافة الأجداد حيث لا يُقبل إلا العمل الصحيح المتقن على عكس ما يحدث لنا الآن حيث يتم تنحية مهاراتنا البشرية شيئا فشيئا لصالح الآلة حتى أننا أصبحنا لا نتقن إلا القليل وتلاشت من ثقافتنا فكرة الاتقان تقريبا واكتفينا بمستوى متدني من الجودة في كل شيء!!!
الفراغات سامقة في شموخ عظيم…..
كلما دخلت أيا من المبان أجدها وقد حوت فراغات بارتفاعات عالية وكأن بنائيها قد قصدوا أن يخبرونا بأنهم لم يبخلوا على ساكنيها ومرتاديها وجعلوها رحبة لتعويضهم عن قسوة البيئة الصحراوية المحيطة بهم وليجد الهواء الساخن متسع ليصعد بعيدا عن مستوى المعيشة في الداخل وهنا تذكرت نقاش دار بيني وبين أحد أصحاب شركات التطوير العقاري الكبرى في مصر حيث تجادلنا في أبعاد الغرف الداخلية وأرتفاع السقف حيث كان يصر أن يكون في أقل حد ممكن يسمح به قانون البناء وأنه قد يخصم منه عشرة سنتيمترات حين التنفيذ وبعد الحصول على الرخصة حتى ولو دفع غرامة تصالح حيث أنه يمكنه بذلك توفير مبلغ معتبر من المال حتى بعد دفع الغرامة أو “الرشوة” حسب تعبيره. وكان موقفي الرافض لهذا المبدأ الشحيح والذي يضيق على الناس معيشتهم سببا كافيا لعدم تكليفي بالمشروع وشعوري الغامر بالسعادة بأن نجوت من هذا الموقف العبثي وتجنبت ارتكاب هذه الجريمة البشعة.
مرة أخرى أتصور أننا بحاجة إلى مراجعة الحد الأدنى لارتفاعات الفراغات المعيشية في قانون البناء المصري بما يتناسب مع الظروف البيئية المحلية الخاصة بنا ولنعود لما كان يتم بناؤه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ونشاهده في مبان منطقة وسط القاهرة بارتفاعات تقترب من الأربعة أمتار أو تزيد ويشعر الجالس فيها بحالة من السعة والانشراح بدلا من تلك الأسقف التي تكاد تطبق على أنفاسنا في مبانينا الحديثة.
الفنون والحرف اليدوية تحمل جيناتنا الثقافية
نقوش حجرية هنا وهناك ، زجاج معشق في الجص، مشربيات من الخشب المخروط ، خزف وزخارف هندسية مصنوعة بدقة من قطع الرخام أو الزليج، حفر على الأخشاب، أقواس وأقبية وقباب وقبوات مصنوعة من الأحجار المنحوتة ببراعة شديدة، أطباق نجمية من الأخشاب المطعمة بالعاج والأبنوس والأصداف، أبواب مصفحة أو مغشاة بالنحاس، أسقف مكفته بزخارف ذهبية وملونة، مداميك حجرية من الأبلق والمشهر وليست أفقية فقط بل المذهل أنه أحيانا تكون تلك المداميك مائلة كما في مأذنة مدرسة خوند تتر الحجازية، قناديل زجاجية ملونة ومشكاوات نحاسية ، كوابيل خشبية وأخرى حديدية ….. القائمة تطول ولا تتسع لذكر كافة الفنون والحرف اليدوية التراثية التي كل قطعة منها تحمل بصمة أو “جين” من ثقافتنا المحلية.
والآن هل يمكنا أن نسأل: ما الذي تبقى لدينا من كل تلك الفنون ولا يزال حيا بيننا؟
كيف سمحنا باندثار الكثير منها أو غالبيتها تقريباً؟ لماذا لا يتم تبني أكبر قدر ممكن من هذه الحرف في مشروعات تطوير القاهرة الفاطمية والتي رأيناها تبنى بالخرسانة المسلحة ويتم كسوتها فقط بالأحجار لتبدو كديكور مسرحي لا أكثر؟
أذكركم بأن أستاذنا الراحل الدكتور عبد الحليم إبراهيم حينما تم تكليفه بتصميم وبناء مشروع حديقة الأطفال الثقافية بالسيدة زينب قرر أن يعيد أحياء الكثير من تلك الحرف البنائية وتم بناء المشروع بعمارة صادقة حقيقية مستخدما الحجر المنحوت والزجاج المعشق والخشب المخروط وغيرها من العناصر التي صنعها معلمين بناء وحرفيين مهره بحث عنهم استاذنا الراحل رحمه الله وكلفهم بالعمل بعد أن آمن بأن من واجبه دعم بقاء حرفتهم وتشجيعها وتوفير سبل الحياة لها مرة أخرى وهو ما تحدثت عنه كثيرا في مقالات عده وأراه دور رئيسي للمعماري وواجب يجب أن يقوم به تجاه مجتمعه المحلي للحفاظ على ثقافة البناء لديه حيه.
“أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير”!!!!!!!
تذكرت هذه الآية الكريمة وأنا أختتم جولتي في شارع المعز حين فاجأتني مجموعة من العمائر التي قامت الدولة بترميمها و “تطويرها” عن طريق إعادة طلائها وتركيب كسوة حجرية بالدور الأرضي بها وإضافة شبابيك من الخشب المخروط لتبدو متناسبة مع محيطها التراثي.
أعلم أن ما سأقوله سوف يغضب البعض ولكن الحقيقة أنني شعرت بحزن عميق لمشاهدتي أن هناك أموال تنفق على مبان لا تحمل أية قيمة أثرية على الإطلاق بينما هناك من النفائس الأثرية ما هو مهمل تماما ومهدد بالفناء ويحتاج لكل قرش كي يبقى ولا يزول؟
بأي منطق ننفق على صناعة “ديكور مسرحي” معماري ونترك الأثار الحقيقية في هذا الوضع المزري المتهالك؟ من المسئول عن هذا العبث في توجيه أولويات الصرف؟
على الجانب الآخر لماذا لا توجد مبادرات بأفكار خلاقة “خارج الصندوق” يمكن من خلالها أن ننقذ ما تبقى بين أيدينا من كنوز تراثية؟ لماذا لا يتكرر ما حدث مع مسجد الحاكم بأمر الله؟
لماذا لا نستطيع أن ننظر إلى كنوزنا نظرة تجمع بين الحفاظ الحقيقي والاستثمار الواعي؟
لماذا لا نفرض مثلا ضريبة خاصة على كافة الفنادق الفاخرة في القاهرة وتخصص إيراداتها حصريا على ترميم آثار القاهرة الفاطمية الأمر الذي بالتأكيد سوف يعود بالنفع على تلك الفنادق لزيادة أعداد السائحين القادمين لزيارة المدينة العتيقة؟
لماذا لا يتم وضع خطة لإخلاء وتحرير جميع المبان الأثرية والمبان ذات القيمة داخل القاهرة الفاطمية من جميع الاشغالات والاعتداءات؟
مرة أخرى متى سنرى مشروع المتحف المفتوح للقاهرة الفاطمية في صورة حديثة ومحترفة تجذب السائحين من أطراف الأرض ليشاهدوا معجزة عمارة وعمران الحضارة الإسلامية بطبقاتها العباسية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية والطولونية والمملوكية حتى العثمانية؟
وفوق كل هذا وذاك، متى نرى تغير حقيقي في نظرة مدارسنا ومعاهدنا المعمارية تجاه هذا التراث وتلك الخبيئة العظيمة التي هي آخذه في الاندثار من بين أيدينا، ونلمس تغير حقيقي في مناهج التدريس فيها لتخريج معماريين ومخططين لديهم وعي والتزام حقيقي تجاه ملامح بيئتنا المحلية وقادرين على استعادة جوهر ثقافتنا الحقيقية في البناء؟
يمكنكم الاطلاع على كافة صور الكنوز التي شاهدتها من خلال هذا الرابط على الفيسبوك
محمد الرافعي، 28 يوليو 2023