محطات مهنية……. الفن والحياة
في حياة كل منا محطات مهنية فارقة شكلت في مجموعها شخصياتنا المهنية والبعض منها قد نعتبره علامة فارقة في طريقنا لبناء الخبرة لأنها تمثل القواعد والمنطلقات التي تأسس عليها هذا البناء الطويل.
جالت هذه الخاطرة بذهني بعدما وقعت عيناي على أول تقرير فني كتبته في حياتي ومرتبط بأهم مشروع عملت به في تلك الفترة.
البداية كانت سنة 1991 أي بعد عام واحد من تخرجي من قسم العمارة بكلية الهندسة بجامعة القاهرة.
كنت في هذه السنة أدرس لتمهيدي الماجستير وتعرفت وقتها على صديق عزيز يلينا بدفعة واحدة وخريج العمارة بجامعة عين شمس أسمه رجائي سعيد “رحمه الله ” كان عمه هو الفنان التشكيلي والفيلسوف العظيم أستاذ حامد سعيد ، ذلك الصديق المقرب من استاذنا العبقري حسن فتحي رحمهم الله جميعا والذي بنى له بيته ومرسمه في منطقة المرج وسط الحقول.
قدمني رجائي الى عمه الذي كان لكبر سنه يلقبه ب “جدي حامد” حيث كان استاذنا حامد سعيد في تلك الفترة يرأس جماعة فنية متميزة وهي جماعة الفن والحياة والتي جمعت كبار القامات الفنية التشكيلية في مصر في ذلك الوقت أمثال زوجته الأستاذة إحسان خليل والرائع حسين بيكار والعبقري زكريا الخناني وزوجته الدكتورة عايده عبد الكريم والدكتورة علياء رافع وكثيرون ممن لا يسع المقام لذكرهم جميعا.
قضيت سنتين كاملتين من عمري أذهب فيهما بصورة منتظمة للقاء استاذنا حامد سعيد والاستماع الى ما يلقيه علينا في يوم الأربعاء الأول من كل شهر والذي كنت أنتظره بشغف كبير حيث كان بالنسبة لي بمثابة تحليق ذهني في ملكوت العلم والفلسفة والفن ومعاني الحياة.
كنا نتحلق حول البحيرة الصغيرة التي في حديقة منزله ونصغي إليه بصمت شديد وكأن على رؤسنا الطير فقد كان لكبر سنه يتحدث بهدوء وصوت خفيض كمن يستلهم كلماته من عالم آخر لا نراه نحن الجالسون ، فكان مجرد فوات حرف مما يقول هو أكبر خسارة بالنسبة لي كوني كنت وقتها شاب حديث التخرج يتلمس طريقه لفهم الحياة من أوسع أبوابها لعله يجد في ذلك ما يعينه على تحديد بوصلته المهنية المعمارية.
كنا نخرج من هذه اللقائات وكأننا لا نمشي على الأرض تكاد أرجلنا لا تلامسها بل نحن كنا كالطير محلقين في آفاق بعيدة من الفلسفة التي تجعل من الواقع عبئا كبيرا على كاهلنا.
لم تكن سيارتي النصر 125 هي التي تشق الطريق وسط الحقول لتصل إلى تلك القلعة الفنية العظيمة (رغم تواضع هيكلها المبني من الطين اللبن ) بل كان عقلي يسبقها في لهفة وتشوق لما سيلقيه على مسامعنا ذلك الفيسلسوف الزاهد “عمي حامد” كما سمح لي أنا أناديه.
في أحد تلك اللقاءات تعرفت على الدكتورة زينب الديب وهي كانت حاصلة على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من السربون ووفق روايتها الخاصة أنها قد حصلت من استاذنا العبقري حسن فتحي على تصاميم مساكن نموذجية لإسكان الشباب في مجتمعات الاستصلاح الزراعي الجديدة وكانت قد نجحت في الحصول على تمويل لمشروع ريادي يتم من خلاله تنفيذ تلك التصاميم في تسع مناطق مختلفة عبر الجمهورية.
امتزجت شحنات الفلسفة التي كنت استمدها من لقائات الأربعاء لجماعة الفن والحياة مع قرائاتي المستفيضة لكل ما كتبه حسن فتحي وحديث “عمي حامد” عنه وعن أفكار صديقه المعماري العبقري وانصهر كل ذلك بداخلي حتى أصبحت روحي كالجمرة المتوقدة والتي تنتظر الفرصة لتفجر كل تلك الطاقة والحماس في عمل واقعي على الأرض.
لقد انتبه “عمي حامد” لحالة الحماس الشديدة تلك فأوصى بي للدكتورة زينب الديب لكي تضمني للكادر الفني لمشروعها.
لقد طرت من السعادة حينما عرضت علي الموضوع فالأمر كان بالنسبة لي كما العاشق الذي وجد حلمه بين يديه وقبلت على الفور التكليف بالعمل كمتطوع بأجر زهيد جدا ( مائتي جنيه بالشهر).
لقد أقبلت على العمل في هذا المشروع وأنا تتراقص في مخيلتي الأحلام العريضة بأن استكمل ما بدأه استاذنا العبقري حسن فتحي ، لم أنتظر أي مردود مادي بل على العكس لقد أنفقت من جيبي الخاص على عملي في المشروع حيث تبين لي أن الوعود بالأجر قد تبخرت وأن علي أن أعمل بالمجان حتى وصل بي الأمر أنني أصبحت لا أجد ما اشتري به بنزين لسيارتي المتواضعة ورغم ذلك قبلت أن أستمر علني أسير بخطوات حقيقية نحو تحقيق حلمي.

قد اخترعت فكرة لتثبيت المونة الإسمنتية بالحائط الطيني اللبن عن طريق صنع كانات من سلك الرباط
الفكرة تحمس لها المعلم فتحي وصديقي العزيز وزميلي في ذلك الوقت مهندس وليد خيري وساهما الأثنان معي في تنفيذها.

من داخل نموذج المسكن الإرشادي بمركز البحوث الزراعية بالدقي ويظهر بالصورة
المصمم الإنشائي للمشروع والمهندس صلاح مرعي والمعلم فتحي حمة الله عليهما

أول تصميم أقوم به لمبنى بأسلوب الحوائط الحاملة والتغطية بالقباب والأقبية
المبنى عبارة عن “خان للصنايع” وهو يحتوي على ورش للتدريب على الحرف والفنون التقليدية .
لقد استمر عملي في هذا المشروع نحو السنة والنصف ، أعمل في المواقع أبني مع العمال ، أضرب الطوب اللبن بيدي ، اختبر الطوب اللبن خلسة في معامل كلية الهندسة على نفقتي الخاصة ، اصمم أول مبنى لي بأسلوب الحوائط الحاملة والقباب أحاور واستمع الى عباقرة ذلك الزمان من أمثال أستاذنا الراحل صلاح مرعي رحمه الله واستاذنا الدكتور عادل يس امد الله في عمره واستاذنا الراحل إبراهيم جعفر رحمه الله وتعرفت أيضا من خلال العمل بالمشروع على المعلم أبو الفتوح محمد (الشهير بالمعلم فتحي) وهو شيخ البنائين في المحاميد بأسوان رحمه الله والذي رافقني في محطات هامة جدا تالية في حياتي المهنية.
الصدمة……..
لعل كل من يقرأ ما سبق يتصور أن الحلم فعلا قد بدأ يتحقق !!!!!! ولكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بل وصادمة إلى أقصى حد. فقد تبين لي مع الوقت أن المشروع ليس فقط قد حاد عن هدفه الأساسي في إرساء جسر من الثقة في أفكار استاذنا حسن فتحي من خلال بناء نماذج حية توضح بثقة وواقعية أن هذه الأفكار وتلك اللغة المعمارية يمكنها أن تطرح حلول جذرية لإشكالية السكن في مناطق التعمير الجديدة بل على العكس تماما كان ما يتم تطبيقه على أرض الواقع يقود لنتيجة مفادها أن هذه اللغة المعمارية باهظة التكلفة ولا تصلح كنماذج لإسكان اقتصادي يتحمل تكاليفه الشباب بسهولة.
لقد صدمتني حقائق كثيرة كانت تحدث من حولي وكنت ارقبها جميعا حتى وجدتني في يوم من الأيام أقف على باب رئيس اللجنة التوجيهية للمشروع لأطلب مقابلته لأستنجد به في إعادة تصحيح الوضع.
كان رجلا خلوقا وتعامل معي باحترام جم وهو الأستاذ الكبير وبعد أن اصغى إلي باهتمام سألني سؤال واحد : هل يمكنك كتابة تقرير فني بكل ما وضحته لي فأجبت : نعم ، فأمر مديرة مكتبه أن تصطحبني الى مكتبة المركز الذي يرأسه وأن توفر لي كل ما يلزمني من أوراق واقلام لكي اتفرغ لكتابة هذا التقرير الذي أنشر صورته هنا.










محمد الرافعي ، 14 يناير 2022