نزيف الفكر المعماري وإشكالية القيمة
يُقال أنّ رأس مال الشاعر هو ثروتُه اللغوية وتجاربُه العاطفية التي يستلهمُ منها أبياتَ شعرِه ليُجسِّدَ معانٍ عميقةً في النفسِ، ورأسُ مالِ الفنان يكمنُ في إحساسِه البصري وموهبتِه الفريدة في الإمساك بفرشاتِه ليُعبِّر عمّا بداخلِه، ورأسُ مالِ الموسيقار هو إحساسُه المرهف تجاه ما يُطرِبُ أُُذنَيْه، وقدرتُه على خلقِ جُمَلٍ موسيقيةٍ تنفُذُ إلى الوجدان وتُحدِث به تأثيراتٍ عاطفية متباينة.
تُرى ما هو رأس مالِ المعماري؟
لقد دار بذهني هذا التساؤل حينما قدّمتُ محاضرةً بإحدى الجامعاتِ العربية حول أحدثِ مشروعٍ قمتُ بتصميمِه، فانهالتْ على مسامعي عباراتُ الثناءِ والإطراء، وعبَّر لي جميعُ الحاضرين من أعضاء هيئة التدريس عن إعجابِهم الشديد بـالأفكار التي صاغَها وجسَّدها التصميمُ بصورةٍ فريدةٍ وسلسة، حتى أنّ أحدَهم حدّثني مُتأثراً وقال لي:
“لقد خرجنا من محاضرتِك في حالٍ لا يُشبهُ الحالَ الذي كنا عليه قبلَها، لقد استحوذ مشروعُك على عقولِنا وقلوبِنا معاً، ومنحَنا الأملَ الذي كدنا أن نفقِدَه في وجودِ عمارةٍ صادقةٍ في بلادِنا”.
نظرتُ إلى مُحدِّثي وحدّثتُ نفسي في صمتٍ: ماذا لو يعلمُ أنّ هذا المشروعَ مُتوقِّفٌ منذُ أكثر من عشرةِ أشهر؟!!!
لقد توقّفَ عقدُ تكليفِنا بالتصميم عند المرحلة الأولى فقطْ، “مُخطَّطُ الموقعِ العامِّ”، ولم نتلقَّ مِنْ بعدِه أيَّ تكليفٍ جديدٍ لـاستئنافِ العمل والانتقال إلى التصميم المعماري، ولكنّني على الرغم من ذلك فقد اتخذتُ قراري وأبلغتُ فريقِي بعزمي على أن نستكملَ العملَ بالمشروعِ حتى وإنْ لم نُكلَّفْ به، وقراري هذا كانَ مدفوعاً بسببَيْن:
السبب الأول – وهو مُرتبطٌ بالحالة الإبداعية التي نعيشُها كمُصمِّمين مِثلُنا مِثلُ الشعراء والفنانين، إذْ أنّنا في مرحلة مخاضِ الفكرة نعيشُ حالةً من الإلهام تنهمرُ فيها الأفكارُ علينا كالسيلِ الفيّاضِ الذي لا يجبُ علينا كبحُه، فيصبحُ الخيالُ خِصباً وتتوالدُ فيه صوَرُ تصاميمِنا واحدةً تلوَ الأخرى حاملةً معها كمّاً كبيراً من التفاصيل مُتأثرةً بالحالة الشعورية التي نعيشُها.
السبب الثاني – وهو مُرتبطٌ بـإثباتِ الذات والقيمة التي نملكُها، إذْ أردتُ أن نحصلَ على حقِّنا المسلوبِ منّا كمعماريين عرب لا نُمنَحُ الفُرَصَ العادلةَ في بلادِنا للتعبير عن كفاءاتِنا ومواهبِنا التصميمية، إذْ تذهبُ الغالبيةُ العظمى من تلك الفُرَصِ لـمعماريين أجانب لا تربطُهم بـمُجتمعاتِنا أو بيئتِنا الطبيعية أو الثقافية أيّةُ صلةٍ، فأردتُ أن نقولَ كلمتَنا، ونُعبِّرَ عن قدراتِنا، ونطرحَ نموذجاً مُتفَرِّداً لمَا يمكنُ أن نُقدِّمَه من عمارةٍ نسعى لأن تكونَ صادقةً ومُعبِّرةً عن حقيقتِنا، حتى وإنْ كانَ ذلكَ سنتحمّلُه على حسابِنا الخاصّ، إذْ طمأنتُ فريقِي بأننا مُستمرون بـرواتبَ كاملةٍ غيرِ منقوصةٍ، وهمْ من ناحيتِهمْ – كشبابٍ مُخلِصٍ ومُتحمِّسٍ – تنازلوا عن حقِّهم في الزيادةِ السنويةِ المُستحَقَّةِ لرواتبِهم، وسارَ العملُ على أكملِ وجهٍ طوالَ تلك الشهور، واستطعنا أن نُخرجَ تصميماً مدروساً بعناية ودقة شديدة، ويُراعي كثيراً من الأبعادِ الوظيفية والاقتصادية والبيئية والجمالية والإنسانية…. إلخ، يسعى لـتجسيدِ هويةٍ حقيقيةٍ غيرِ مُزيّفةٍ، وغنيّ بالتفاصيل في كلِّ شبرٍ منه، حتى نالَ الإعجابَ الشديدَ من كلِّ مَنْ شاهدَه بدءاً من مُمثِّلِ المالك، والجهةِ المانحةِ للتراخيص والزُملاء من الأكاديميين والمُمارسين.
لكنّ السؤالَ القاسيَ ظلَّ مُعلَّقاً: هل كانَ كلُّ هذا الإبداعِ كافياً وشفيعاً ليُصبحَ المشروعُ واقعاً؟
الإجابةُ معَ الأسفِ: لا، لقد ظلَّ مُجَرَّدَ فكرةٍ “رائعةٍ” وحَسْبُ.
هذهِ الحالةُ تتكررُ كثيراً وأزعمُ أنّها حالةٌ يعيشُها الأكثريةُ منّا من المعماريين الذين يسعونَ لـإنتاجِ عمارةٍ تحملُ قيمةً حقيقيةً، ففي مكاتبِ الكثيرِ منّا هناك المئاتُ من المشروعاتِ التي قد تمّ تصميمُها بعنايةٍ شديدة ووُضِعَ فيها مُصمِّمُوها عُصارةَ فكرِهم وخبراتِهم، وجميعُها معَ الأسفِ أصبحتْ مُجَرَّدَ أفكارٍ لم تَرَ النورَ وهو ما أعتبرُه حقيقةً “نزيفاً فكرياً”.
لماذا، ما السببُ؟
في تقديري أنّ هناك فجوةً واسعةً بيننا كمعماريين وبين أصحابِ المشروعاتِ، تلكَ الفجوةُ ترتبطُ بـنظرةِ كلِّ منّا لمفهومِ “القيمةِ” وتلك الفجوةُ هي التي تقفُ وراءَ هذا النزيفِ الفكري المُستمرّ، فرأسُ مالِ المعماري الحقيقي والذي يستثمرُه في حياتِه هي كلُّ ما يملكُه الشاعرُ والموسيقيُّ والفنانُ ويُضافُ إليهمُ الفكرُ العميقُ الذي يتناولُ من خلالِه قضايا مشروعاتِه التصميمية.
الحقيقةُ التي أُردِّدُها دائماً أنّنا كمعماريين لا نعزفُ وحدَنا أبداً، فبدونِ وجودِ مالكٍ يُؤمِنُ بما نُؤمِنُ به ويتبنّاهُ كفكرٍ وهدفٍ ورسالةٍ، فلن نستطيعَ أن نُحقِّقَ خطوةً واحدةً للأمام، وستظلُّ أفكارُنا حبيسةَ لوحاتِنا ومُجَرَّدَ “حِبرٍ على الورقِ”، وسيظلُّ واقعُنا المُتردِّي في بيئتِنا المشيَّدةِ يُعاني من ندرةِ المشروعاتِ المُتميِّزة، ولن تجدَ الأجيالُ القادمةُ مِنْ بعدِنا ما يمكنُ أن تُسمّيَه “تُراثاً” ذا قيمةٍ.”
حينما أُفكِّرُ في أسبابِ هذه الإشكاليةِ أجدُ أنّه ليسَ من الإنصافِ تحميلُ أصحابِ المشروعاتِ وحدَهمُ المسؤوليةَ عنها، فنحنُ كمعماريين نتحمّلُ قِسماً كبيراً منها أيضاً، ويُشاركُنا المسؤوليةَ الجهاتُ الرسميةُ المسؤولةُ عن إصدارِ التراخيصِ والأسبابُ من وجهةِ نظري تتوزَّعُ بيننا على النحو التالي:
صاحبُ المشروعِ – المالكُ:
نعلَمُ يقيناً أنّ المالكَ لهُ اليدُ العُليا في تقريرِ مصيرِ أيِّ مشروعٍ قد تمّ تصميمُه، فهو غالباً صاحبُ الأرضِ والمسؤولُ عن توفيرِ الميزانيةِ المطلوبةِ للتنفيذ، ومُلّاكُ المشروعاتِ يختلفونَ في كياناتِهمْ، فقد يكونُوا جهاتٍ حكوميةً أو مؤسساتٍ محليةً أو دوليةً أو أفرادًا أو شركاتٍ عقاريةٍ خاصةٍ… إلخ، وعلى الرغم من وجودِ أسبابٍ مُشتركةٍ تجمَعُهم جميعاً كـضعفِ الميزانيةِ مَثَلاً، إلّا أنّ كلَّ كيانٍ منهم قد ينفردُ بأسبابٍ خاصةٍ به تتسبّبُ في خلقِ الإشكاليةِ، وإذا ركّزتُ حديثي عن الشركاتِ العقاريةِ الخاصةِ، سوفَ نجدُ أنّ هذه الشركاتِ تُدارُ بـمفهومِ “الاستثمارِ” وبالتالي فأصحابُها ينظرونَ لـقيمةِ المشروعاتِ من منظورِ ما يمكنُ أن تُحقِّقَه لهمْ مِنْ ربحٍ وفيرٍ وحَسْبُ، إذْ يُعتَبَرُ هذا من أُولى أولوياتِهم، فأصحابُ القرارِ في هذه الشركاتِ – غالباً – لا يَعنِيهمْ أبداً تصدِّي مشروعاتِهم لقضايا فكرية أو فلسفية أو مجتمعية، فلا يَعنِيهمُ “الاستدامةُ” ولا تَعنِيهمُ “الهويةُ” أو “التنميةُ” أو “خلقُ عمارةٍ صادقةٍ”، فكلُّ هذه القضايا قد ينظرونَ إليها بـنظرةِ شكٍّ في قدرتِها على تحقيقِ تغييرٍ حقيقي، والبعضُ منهم قد يراها مُجَرَّدَ “عِبْءٍ” إنْ لم تدعمْ مشروعاتِهم في تحقيقِ ربحٍ وفيرٍ بأقلِّ ميزانيةٍ وفي أسرعِ وقتٍ ممكن.
المعماريُّ – المُصمِّمُ:
قد تندهشونَ منّي حينما أقولُ لكمْ أنّنا نتحمّلُ قِسماً من المسؤوليةِ في هذه الإشكاليةِ على الرغم من تسليمي التامّ بأنّ قرارَ تنفيذِ أيِّ مشروعٍ بيدِ المالكِ وحدَه، ولكنْ في الحقيقةِ أنّنا نتسبّبُ في إحجامِ بعضِ المُلّاكِ عن اتخاذِ هذا القرارِ وسوفَ أُجْمِلُ لكمْ وجهةَ نظري عن هذا الأمرِ في النقاطِ التالية:
الأنا – معَ الأسفِ نحنُ نُعاني في مُجتمعِنا المهنيِّ من “الأنا” المُفرِطةِ التي تجعلُ صورتَنا مُفكَّكةً أمامَ أصحابِ المشروعاتِ، فنحنُ لا نتفقُ على معاييرَ مُحدَّدةٍ لـ “القيمةِ” المعماريةِ وهذا أمرٌ هامّ للغايةِ، فالغالبُ بيننا هو “الاختلافُ” فمِثلَما تجدُ البعضَ قد يثني على تصميمِك ثناءً عظيماً، ستجدُ في المُقابلِ مَنْ يراهُ مَحْضَ هُراءٍ قبيحٍ، فكثيرٌ من أصحابِ المشروعاتِ يقعونَ في حَيرَةٍ شديدة حينما يَرَوْنَ التباينَ الشديدَ في الآراءِ بيننا فيما يُعرَضُ علينا من تصاميمَ، ومعَ الأسفِ هناك مَنْ يتعمّدُ تسفيهَ عملِ زميلِه لرغبتِه في اختطافِه من بينِ يديهِ، أو لِمُجَرَّدِ حبِّ الظهورِ!!!! وهذا كلُّهُ ينعكسُ سلباً على الانطباعاتِ التي تتشكَّلُ لدى المُلّاكِ عنّا كمُجتمعٍ مهنيّ.
الانغلاقُ – المُتأمِّلُ للندواتِ أو المؤتمراتِ أو أيّاً من الفاعلياتِ التي نُقيمُها كمعماريين سوفَ يلحظُ أنّنا مُنغلِقونَ على أنفسِنا ولا نسمحُ كثيراً بـمُشاركةِ المجتمعِ لأفكارِنا، ولسانُ حالِ الكثيرِ ممّا يدورُ في تلكَ الفاعلياتِ يَشي بأننا نتجاهَلُ تماماً فكرةَ إشراكِ المُستخدمينَ ومُتَّخذِي القرارِ مَعَنا وكأننا نُحدِّثُ بعضَنا بعضاً في قاعاتٍ مُغلَقةٍ! على الرغم من أنّ العمارةَ من المفترضِ أن تكونَ من أقربِ الأنشطةِ الإنسانيةِ لحياةِ البشر، ونحنُ نادراً ما نسعى للاقترابِ منهمْ أونُحدِّثُهم بـلسانِهم ومُصطلحاتِهم ونُبسِّطُ معارفَنا وعلومَنا لهم بعيداً عنْ رَطانةِ المُصطلحاتِ التي نملأُ بها أوراقَنا البحثيةَ، كي ننشرَ ثقافةَ البناءِ والعمارةِ الصحيحةِ بينهم، فهؤلاءِ هُمْ جمهورُنا، ليسَ فقطْ الذي سيخرجُ منهمْ أصحابُ المشروعاتِ، بلْ أيضاً هُمْ مَنْ سيستخدمونَ المشروعاتِ التي سنُصمِّمُها، ومنهُمْ سيخرجُ مَنْ سيُنشئُونَ تلك المشروعاتِ ويُحوِّلونَها لـحقيقةٍ وواقعٍ، وبالتالي كانَ من الواجبِ علينا أن نتخفَّفَ قليلاً من “ياقاتِنا البيضاءِ” ونقتربَ كثيراً من مُجتمعاتِنا.
غيابُ الحافزِ – لقد انغلقنا على أنفسِنا وتناسينَا الأدوارَ الهامةَ التي يلعبُها كلٌّ من المالكِ والمقاولِ في نجاحِ المشروعاتِ، حتى أنّ الغالبيةَ العظمى من الجوائزِ المعماريةِ مَقصورةٌ على المعماريين فقطْ، وإنْ تمّ ذِكرُ المالكِ فيكونُ ذلكَ بصورةٍ هامشيةٍ ويظلُّ دائماً التركيزُ مُنصبّاً فقطْ على المعماريِّ المُصمِّمِ!!! فلماذا لا نُفكِّرُ في أنْ نمنحَ مُلّاكِ المشاريعِ المُتميِّزةِ جوائزَ مُناصَفَةً معَ المُصمِّمينَ كونَهمْ شُركاءَ نجاحٍ كانوا سبباً مُباشراً في تحويلِ التصاميمِ المُتميِّزةِ إلى مشروعاتٍ تحملُ قيمةً حقيقةً؟ أتصوَّرُ إنْ فعلنا ذلكَ سيتولَّدُ لدى المُلّاكِ قدرٌ من الحافزِ المعنويِّ لدعمِ هذه النوعيةِ من التصاميمِ والحرصِ على تنفيذِها.
غيابُ الوعيِ الاقتصاديِّ – قد يبذلُ البعضُ منّا مجهوداً كبيراً في أنْ تحملَ تصاميمُه مسؤوليةَ التصدي لـقضايا هامةٍ في المجتمعِ وهذا أمرٌ رائعٌ بلا أدنى شكٍّ، ولا سيَّما بعدَ أن تستجيبَ تلكَ التصاميمُ لـتحقيقِ الأبعادِ الوظيفيةِ والبيئيةِ والجماليةِ والإنسانيةِ… إلخ، ولكنْ معَ الأسفِ نادراً ما نجدُ مَنْ حاولَ أن يقتحمَ التحديَ الأكبرَ في الموازنةِ بينَ الاستجابةِ لتلكَ القضايا وتحقيقِ الأهدافِ الاقتصاديةِ والاستثماريةِ للمشروعِ، فكما ذكرتُ سابقاً أنّ أصحابَ المشروعاتِ لن يتحمّسُوا لـمشروعِك لـمُجَرَّدِ أنّه قد خفّضَ البصمةَ الكربونيةَ أو حافظَ على التنوُّعِ البيولوجيِّ بلْ سيكونُ عليكَ دائماً كمُصمِّمٍ أنّكَ بجانبِ خفضِكَ لاستهلاك الطاقةِ وحِفاظِكَ على الحياةِ البريةِ أنْ تُحقِّقَ للمُستثمِرِ ما يتطلَّعُ إليهِ من خفضٍ لـلتكاليفِ وتحقيق مكاسبَ يستطيعُ أنْ يُترجمَها إلى أرقامٍ حقيقيةٍ.
المؤسساتُ الرسميةُ:
المؤسساتُ الرسميةُ التي تُنظِّمُ عملياتِ البناءِ في الدولةِ من المفترضِ أنْ يقعَ على عاتقِها مسؤوليةٌ كبيرةٌ في توجيهِ المشروعاتِ نحو تحقيقِ “القيمةِ” المعماريةِ المرجوَّةِ، فلا يكفي مُجَرَّدَ وضعِ اشتراطاتٍ بنائيةٍ وتنظيميةٍ تتحكَّمُ في منحِ التراخيصِ وحَسْبُ، بلْ أتصوَّرُ أنّه من الضروريِّ أنْ يكونَ هناك حوافزُ كبيرةٌ تُمنَحُ للمشروعاتِ “المُمَيَّزَةِ” كـالإسراعِ في منحِ تراخيصِ البناءِ وتيسيرِ إجرائاتِها مَثَلاً أو إعفاءِ تلكَ المشروعاتِ من الضرائبِ لـمُدَّةٍ مُحدَّدةٍ، أو منحِها الأراضيَ بأسعارٍ مُخفَّضَةٍ، أو أيِّ امتيازاتٍ أخرى تُساهمُ في تحفيزِ أصحابِ تلكَ المشروعاتِ على الحرصِ على جودةِ تصاميمِها والجديةِ في تنفيذِها، فالدولةُ إنْ لم تضطلعْ بنفسِها باحتضانِ المشروعاتِ ذاتِ التصاميمِ المُتميِّزةِ فعلى الأقلِّ عليها أن تُسخِّرَ كافَّةَ إمكانياتِها لإفساحِ الطريقِ أمامَ هذه التصاميمِ لترى النورَ وتُصبحَ حقيقةً.
أتصوَّرُ أنّ إشكاليةَ “نزيفِ الفكرِ المعماريِّ” هي قضيةٌ مُلحَّةٌ جداً لنا كمعماريين وتحتاجُ منّا لـعقدِ ندواتٍ حولَها ذاتِ طبيعةٍ خاصةٍ تجمعُ بينَ المعماريينَ وأصحابِ القرارِ من المُستثمِرينَ ومُمثِّلِينَ عن الجهاتِ الحكوميةِ المُنظِّمَةِ لـلبناءِ وجهاتِ التمويلِ الماليِّ، لـيتمَّ تدارُسُ الإشكاليةِ وأسبابِها وكيفيةُ تجاوزِها في حوارٍ مفتوحٍ بينَ الجميعِ لـضمانِ رفعِ جودةِ النتاجِ البنائيِّ، ودعمِ تنفيذِ المشروعاتِ المُتميِّزةِ على أرضِ الواقعِ والاستفادةِ التامَّةِ من الجهدِ الفكريِّ الذي يتمُّ بذلُهُ في تصميمِ تلكَ المشروعاتِ، وعلى الجانب الآخَر أقترح أن تكون هناك جائزة مِعمارية عربية تُخصَّص للمشروعات المتميزة التي لم يَتِمّ تنفيذها؛ كخطوة هامة لاستخراج تلك الكنوز الفكرية المِعمارية من مَكامِنها، وتَسليط الضوء عليها كي للإستفادة ممّا بها من أفكار إبداعية مِن جِهة، ولِدعم وتكريم مُصمّميها وتَحفيزهم على استكمال المسير في إنتاج فكر رَصين وعِمارة صادقة ذات قيمة حقيقية لِمُجتمعاتهم من جهةٍ أخرى.
محمد الرافعي، 11 نوفمبر 2025
