العمارة وثقافة المكان……..محاولة لتعزيز الهوية

 
 
في إطار تكليفنا بتصميم مشروع فندق أربعة نجوم على قطعة أرض بمساحة 4900 متر مربع على ساحل البحر الأحمر في منطقة الحريضة التابعة لإمارة عسير بجنوب المملكة العربية السعودية فاجأنا ممثل الشركة المالكة بطلب مجلس الإدارة بأن يكون الفندق على الطراز “اليوناني” الخاص بجزيرة سانتوريني تحديدا!!!!! لقد صدمنا لهذا الطلب ولا سيما وأننا نعلم يقيناً أن منطقة عسير غنية بموروث ثقافي ومعماري مميز جداً ولا يمكن تجاهله أو حتى عدم احترامه وهو ما قد يرقى من وجهة نظرنا إلى أن يصبح جريمة في حق المجتمع المحلي هناك ولذلك قررنا أن نخوض نقاش مهني طويل معهم حتى نقنعهم بوجهة نظرنا هذه إلى أن حصلنا على قبولهم لوجهة نظرنا “بجهد كبير” بعد أن تعهدنا لهم بأنه سيكون معلم مميز في المكان لشركتهم بإذن الله.
المشروع مثل لنا تحدي مهني نعيشه نحن المعماريين بصورة شبه يومية تقريبا في مكاتبنا الهندسية، فمن ناحية نحن أمام شركة مستثمرة وعلى الرغم من امتلاكها لعلامة تجارية دولية لسلسلة من الفنادق إلا أنها تتعامل مع المشروع من منظور اقتصادي بحت يأتي فيه تحقيق أقصى نسبة ممكنة من الربح المادي على رأس أولوياتها وتريد الحصول على أكبر عدد ممكن من الغرف والفراغات التأجيرية وتستغل أقصى ما يسمح به قانون البناء من عدد أدوار في الموقع وعلى ما يبدو أنهم يحاولون تجنب المغامرة برفع قيمة النتاج البنائي في مقابل رفع القيمة التأجيرية شأنهم شأن الكثيرين من المستثمرين الذي يؤثرون السلامة دائماً ولا يجازفون بالخوض في أي تجربة جديدة قد ترفع من قيمة استثماراتهم لو أحسنوا دراستها وتسويقها جيدا ببعض الجهد الإضافي!! وعلى الجانب المقابل نحن بصدد بناء مشروع في واحدة من أعظم الأماكن ذات القيمة المعمارية المحلية بالمملكة حيث قرى تهامة والسروات ورجال ألمع فكيف لنا أن نتجاهلها؟ علماً بأن وظيفة المبنى كفندق بالصورة المعاصرة التي يتطلبها برنامج المالك ومنظومته التشغيلية لم تكن من ضمن ما قد تعرض له الأجداد في هذه المنطقة ولا يوجد أمثلة أو نتاج بنائي واضح يمكن الاسترشاد به للعمل في مشروعنا الحالي وهذا مثل لنا تحدي آخر في حد ذاته. على الرغم من وقوع مشروعنا على الساحل بعيدا عن القلب في عسير إلا أنه من المهم جدا بالنسبة لنا أن يمثل هذا المشروع امتداد طبيعي وحديث لهذا الأرث العظيم المميز للمنطقة ويجب أن يشكل صورة ذهنية مميزة لا يمكن نسيانها في ذاكرة كل من يزوره من السائحين.
هذه التحديات جعلتنا نفكر مليا في كيفية الموازنة بين تحقيق أهداف المالك الربحية والاتساق مع مبادئنا ورؤيتنا المعمارية المسئولة عن ثقافة وموروث المكان في ذات الوقت.
لقد قمنا بدراسة أنساق العمارة العسيرية بدقة ووجدنا أننا على الرغم من قدرتنا الفنية على تصميم المشروع ليتم بناؤه باستخدام النظام التقليدي المستخدم للأحجار والأخشاب المحلية بصورة حديثة والذي يعزز الاستفادة من خصائصها الحرارية ويحقق الاستدامة ويستعيد ثقة المجتمع المحلي بها ويحافظ على استمراريتها بل وتجددها إلا أننا تيقنا بعد نقاش طويل ومستفيض مع الشركة بأنه سيكون من الصعب جدا بل من المستحيل اقناعهم بتبني تلك الأساليب “الغير” تقليدية لبناء المشروع بطوابقه السبعة ولهذا كان علينا أن نبحث عن فكرة وسطية تحقق التوازن المطلوب قدر المستطاع.
لقد اجتهدنا في البحث والتفكير حتى توصلنا لنتيجة مفادها أننا وإن لم نستطع الالتزام بالأنساق البنائية للعمارة المحلية كاملة والإفادة منها إلا أنه علينا حتما أن نلتزم بالهوية البصرية لها بعد تطويرها وإعادة استخدامها بالصورة الملائمة للمشروع وأن علينا أن نقوم بذلك اعتمادا على أهم الأنساق والمفردات المميزة لها والتي لم نجد أفضل من فن “القط العسيري” معبرا عنها.
تقول الدكتورة / جوزاء بنت فلاح بن مدلول العنزي في دراستها حول هذا الفن المحلي الفطري:
“فن القط العسيري هو فن تزيين جدران المنازل من الداخل بمنطقة عسير في جنوب المملكة العربية السعودية؛ ويعود تاريخه الى مئات السنين؛ ويعتمد على زخارف هندسية فريدة من نوعها تتراوح بين المثلثات والدوائر والمربعات والخطوط؛ ويتميز بالألوان المستوحاة من الطبيعة، ولقد أدرج هذا الفن ضمن القائمة التمثيلية للتراث العالمي غير المادي لدى منظمة اليونسكو في يناير 2018 وزخارفه نابعه من المُعطيات البيئية المُستمدة من النباتات والوحدات الهندسية المجردة، وتقوم بها النساء دائماً؛ حيث تدعو النساء أقاربهن ومعارفهن من مختلف الفئات العمرية لمساعدتهن في تجميل منازلهن من الداخل، حيث كانت ربة المنزل تحرص على تزيين منزلها من الداخل بشتى أنواع الرسوم والزخارف وتجديدها في المناسبات والأعياد؛ وبالتالي تم توريث هذه المعرفة من جيل إلى جيل؛ ولا يقتصر الفن على الجدران فقط بل يمكن رؤيته على الفخار أيضا ويعزز هذا الفن الترابط الاجتماعي والتضامن بين أفراد المجتمع الواحد، وله تأثير علاجي جيد وفعال على ممارسيه؛
يبدأ التقطيط بتجهيز الجدار عن طريق صُنع بودرة من طبقات الجبس يضاف إليها الصمغ، ليتكون خليط يضفي على الجدران مظهراً لامعاً فيسهل تلوين هذه الطبقة. ولتجهيز الألوان تقوم النساء بطحن المواد الملونة المستخرجة من الطبيعة حتى تصبح مسحوقاً ناعماً على رحى من الحجر ليذوب المسحوق ويتم مزجه بعد ذلك بالصمغ، ما يعطيها لُزوجة لتصبح أكثر تماسكاً فيثبت اللون بسهولة. وتتنوع الألوان المستخدمة لتشمل الأحمر (حجر المشقة)، والأصفر (الكركم)، والأسود (الفحم)، والأخضر (البرسيم)، وأُضيف اللون الأزرق لاحقاً بعد أن جلبه التجار إلى المنطقة. وتَخُط السيدات الأشكال باستخدام ريشة مصنوعة من ذيل الماعز.
أما عن الزخارف والنقوش، فقد اتخذت عدة دلالات ومعاني، فالخطوط الأفقية تدل على السكون والثبات، والخطوط المنحنية تدل على الحيوية والمرونة. وتعكس النقوش دلالات معينة ومنها “الأرياش” التي تدل عن العلاقة بين الأنثى والنبات، و”المحاريب” التي ترمز إلى الجانب الديني الذي يعتز به المجتمع العسيري. “
إذا نحن بهذا الشكل لسنا أمام مجرد فن تشكيلي تجريدي وحسب بل موروث ثقافي له بعد بيئي واجتماعي وديني ونفسي وجمالي في آن واحد.
 
لقد رأينا أنه من الجيد إخراج هذا الفن من صورته التقليدية كونه “زينة” للفراغات الداخلية للبيوت واستخدامه كلوحات جدارية في المشروع من الخارج وهذه الفكرة على الرغم من أننا قد سبقنا إليها آخرون إلا أننا قررنا أن لا نكتفي بها بل أن نستلهم خطوطه وأنساقه اللونية في تصميم كافة تفاصيل مشروعنا كتيجان الأعمدة والمظلات والتغطيات الخشبية وكوبستات التراسات الخارجية وفوانيس الإضاءة والأرضيات وغيرها وصياغة كل ذلك في جمل بصرية مبتكرة وبخامات بناء محلية مع اتاحة الفرصة لأن يتم ذلك على أيدي فنانين محليين من الشباب ليمثل المشروع فرصة كبيرة للحفاظ على موروثهم الثقافي ودعم استمراريته ويصبح منصة مستدامة للتعبير عن ابداعاتهم وإخراجها للنور ليراها ويلمسها جميع من يزوره، ليس ذلك فحسب بل استحدثنا في البرنامج الفراغي للمشروع مرسم للأطفال يمكنهم فيه تعلم هذا الفن على يد سيدات من المجتمع المحلي ممن يحترفونه.
من ناحية أخرى وإضافة لهذه المفردات البصرية فقد حرصنا على تجنيب مشروعنا أية أحمال حرارية زائدة حينما تجنبنا الاستخدام المفرط للمسطحات الزجاجية بالفتحات دون سبب منطقي واجتهدنا في وضع تناسب مضبوط بين مسطح الفتحات ومسطحات الكتلة المصمتة بالواجهات وحاولنا توفير أكبر قدر ممكن من الظلال عن طريق تشكيل الكتلة والتراسات الخارجية العميقة للغرف والبرجولات المزروعة التي تغطي الكثير من الأسطح ومسار حركة المشاة في الجزء التراثي وتوجيه القسم الأكبر من الواجهة تجاه الشمال فضلا عن أننا وظفنا في تصميمنا مجموعات من الأنساق المعمارية المحلية المتصلة بتشكيل الكتلة وخط السماء ونسب السد إلى المفتوح واجتهدنا أن يتضمن تصميم مشروعنا على جزء من نسيج تقليدي للعمران المحلي بعسير بعد أن قمنا بتوظيفه ليحوي مجموعة من الأنشطة الجاذبة كالنادي الصحي ومرسم الأطفال والكافيهات وبعض من محال التذكارات للفندق وبحيث تكون الحركة فيه بمثابة تجربة فراغية ممتعة للنزلاء تذكرهم بهوية المكان الذي يقضون فيه أجازتهم ويحفزهم على حفظ ذكريات خاصة به تميزه عن أي مكان آخر قد يزورنه في جولاتهم السياحية فالصور التي سوف يلتقطونها في المشروع ستذكرهم دائماً بأنهم كانوا في: “عسير”.
لقد حرصنا على أن يحتوي تصميمنا على مجموعات متنوعة من الغرف والأجنحة الفندقية التي تتمتع جميعها بتراسات خارجية كبيرة تشاهد مناظر جذابة ومتنوعة فضلا عن أننا قمنا باستغلال الدور الأخير وملحق السطح لنصمم مجموعات من الفيلات الفاخرة التي يتوفر لكل منها مسبح صغير خارجي وحديقة وركن للشواء في الهواء الطلق.
قبل أن أختم مقالي هذا يجب أن أقول أن تصميمنا هذا لا يعدو سوى مجرد اجتهاد منا نقدمه كنموذج للتعامل مع الإشكالية والتحدي الذي ذكرتهما في البداية ولا يعني أبدا أنه الحل الأمثل أو الأنجح الوحيد فلكل مشروع ظروفه الخاصة وتجربتنا هذه وإن كانت لم تحقق الغرض منها بعد أن توقف المشروع لأسباب إدارية، فنحن نظن بأننا وعلى الرغم من خسارتنا للمشروع إلا أننا كسبنا أنفسنا والتزامنا بمبادئنا التي كرسنا لها حياتنا المهنية ، واصررنا قدر ما نستطيع أن نحافظ عليها ولا نتنازل عنها بسهولة واجتهدنا لإنتاج مشروع يحقق رؤيتنا عن عمارة المكان وما يجب أن تكون عليه……هل نجحنا؟ لا أدري…..لا أستطيع أن أجزم بذلك ولكن من المؤكد أننا بذلنا اقصى طاقتنا وحاولنا واجتهدنا.
أشكر فريقي التصميمي الرائع على نضاله وجهده المخلص المحترف معي:
أيمن سامي Ayman Samy
عمر حسني Omar Hosny
ملحوظة : يمكنكم الاطلاع على كامل الملف واللقطات المنظورية للمشروع من خلال هذا الرابط
ويمكنكم الاطلاع على كافة الدراسات التصميمية له من خلال هذا الرابط
ويمكنكم التجول بداخله من خلال الفيديو المتوفر في هذا الرابط
محمد الرافعي ، 8 سبتمبر 2023
 
 

 

 
 
 
 

 

 

 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

العمارة النظرية… وحب الظهور

  العمارة النظرية… وحب الظهور   وصلتني مؤخرًا دعوة للمشاركة كمتحدث رئيس في مؤتمر دولي يتناول قضايا التراث والترميم تحديدًا، فتساءلت في حيرة: من أين حصل المنظمون على معلومة أنني متخصص في الترميم؟ فهذا المجال لم أعمل به قط، ولا توجد لدي أي خبرة عملية مرتبطة به، لذا فأنا لست…

العمارة الصادقة، تحديات واطروحات

  العمارة الصادقة، تحديات واطروحات   منذ أن صككت مصطلح “العمارة الصادقة” في سبتمبر 2022، وأنا في سعي دائم نحو استكشاف الفرص المتاحة لتحقيقه في واقعنا المعاصر، ولطالما وضحت أن تحقيقه غير مرتبط بتصور واحد وحيد “أمثل” ولذا فإنني أردد في مختلف المناسبات أنه سيكون هناك دوماً المناسب والأنسب والأكثر…

الصدق في العمارة

  الصدق في العمارة كلما شاركت بنشر أحد المشروعات التي أقوم بتصميمها مع فريقي التصميمي، في إطار محاولاتنا المستمرة لتحقيق مفهوم “العمارة الصادقة” الذي كنت قد طرحته منذ أكثر من ثلاث سنوات، ترد الي أسئلة كثيرة حول ماهية المفهوم؟ ومعاييره، والبعض يسأل عن احتمالية وجود عمارة “كاذبة” أو غير صادقة…

لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة

  لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة   هذا هو الهدف الرئيس الذي تمحورت حوله رؤيتنا التصميمية للمشروع الذي صممناه حديثاً ونشارك أفكاره معكم . فالنسيج الكتلي المتضام، والفناء الداخلي، وخلق الفراغات المنحوتة في الكتلة من الداخل إلى الخارج، وتوظيف مواد البناء الطبيعية في الإنشاء، والتهوية…

هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم

  هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم   أتتذكرون طفولتكم وكم هي كانت جودة الحياة فيها؟ أتذكرون عندما كانت المباني تجسد صورة دقيقة لقسمات مجتماعتنا، وتحمل في طياتها قصصاً وأسراراً؟ عندما كانت الجدران تتحدث، والخشب يروي حكايات الزمن؟ اليوم، يبدو أن المباني فقدت روحها، وتحولت إلى مجرد هياكل خالية…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP