العمارة الصادقة، تحديات واطروحات

 

منذ أن صككت مصطلح “العمارة الصادقة” في سبتمبر 2022، وأنا في سعي دائم نحو استكشاف الفرص المتاحة لتحقيقه في واقعنا المعاصر، ولطالما وضحت أن تحقيقه غير مرتبط بتصور واحد وحيد “أمثل” ولذا فإنني أردد في مختلف المناسبات أنه سيكون هناك دوماً المناسب والأنسب والأكثر مناسبة، فقد بات في يقيني أنه مادام الأمر مرهون بالتناسب فسيظل هناك صور لا نهائية لتحقيق هذا المفهوم ترتبط دوماً بظروف الزمان والمكان وما يفرضانه على المصمم من تحديات كثيرة تحتاج لقرارات وترجيحات واعية، والأمر ليس بالهين فتصميم مشروع معاصر في سياق يحمل أرثاً عمرانياً كبيراً يفرض عليك توخي الحرص الشديد إذ أن عملية التصميم لا تنطوي على قدر كبير جداً من القرارات وحسب، بل أن تنوع الاعتبارات وأختلاف أوزانها النسبية تزيد الأمر تعقيداً.

Al Uyon Oasis Resort

مخطط الموقع العام لمنتجع واحة العيون – بالمدينة المنورة
 
في سطور قليلة سوف ألقي الضوء على عينة بسيطة مما نواجهه من تحديات داخل استديو التصميم خاصتنا أثناء عملنا على تصميم مشروع المخطط العام لمنتجع ريفي بيئي فئة خمسة نجوم، يطل على وادي “قناة” بمنطقة العيون بالمدينة المنورة:
المعاصرة – التقليدية
التراوح بين المعاصرة والتقليدية، لا يزال يمثل معضلة قليل من المعماريين من استطاع تجاوزها، فالتحديات التي تفرضها كثيرة ومتنوعة حيث يصعب تحديد الخط الفاصل بين التجديد والتقليد، وتبرز دائماً أسئلة محورية من نوعية:
– ما الذي نستطيع توظيفه من أنساق تقليدية محلية ويمثل أهمية في الاستخدام المعاصر؟، فالأنساق التراثية ليست بالضرورة أن تكون جميعها تصلح للقيام بوظائف معاصرة ولا يجب النظر إليها بصورة رومانسية لمجرد كونها “تراثية”، ولذا كان لزاماً علينا تحديد ثلاث أنواع منها:
أنساق حية ويمكن توظيفها على نفس قوانينها التشكيلية.
أنساق باتت لا تصلح لواقعنا المعاصر.
أنساق تحتاج للتطوير كي تعود لتؤدي وظيفتها بصورة متوافقة.
– هل التجديد هدف في حد ذاته؟ أم أنه وسيلة لتحقيق الكفاءة؟
– ماهو مفهوم المعاصرة؟ بعيداً عن التشكيلات السطحية التي يصفها البعض خطأ بأنها تعبر عن “الحداثة”.
– ما هي حدودنا في توظيف تقنيات حديثة خارج إطار المكان ولكنها تحقق كفاءة تشغيلية أعلى؟
 
البساطة – التكلف
من دراستنا للنسيج العمراني التقليدي للمدينة المنورة تصفحنا العديد من المراجع والتي تتحدث عن الموضوع ، ولفت نظري أن البعض منها يبالغ أحياناً في خلق صور فلسفية على بعض الحلول التصميمة في الموروث العمراني، قد لا تكون لها أية صلة بالواقع وإنما هي محاولات لإسقاط أبعاد رمزية عميقة على النتاج وتحميله ما لا يعبر عن حقيقته، فعلى سبيل المثال حينما يتم تفسير وجود “سقيفة” تعبر زقاق بأن الهدف منها “قطع الملل” عن السائرين وخلق صورة بصرية مغايرة، فهذا في تقديري نوع من أنواع “التخمين” وليس الحقيقة، فأنا لا أنفي عن أجدادنا رغبتهم في الرمزية أو اعتنائهم بالتفاصيل التي تحمل جودة عمرانية ومعمارية، ولكن في ذات الوقت أتصور أنهم كانوا يفكرون بصورة أبسط مما نفكر به الآن، إذ كان تحقيق الوظيفة له أولوية قصوى لديهم دون تكلف أو مظهرية فالمعماري المسلم لم يكن ينتظر علامات الإعجاب التي سيحصدها من منصات التفاعل الاجتماعي-كما ابتلينا الآن- بل كان يسعى لأن يحقق أهداف أسمى حتى وإن كان “الإعجاب” من ضمنها، ولكنه إعجاب مبني على حقيقة الجودة والكفاءة وليس “الإبهار” الشكلي، وهنا يأتي التحدي في كيفية الحفاظ على تحقيق الجودة ببساطة وتوخي الحذر من الوقوع في “الأنا” والتكلف، ويصبح لزاماً علينا أيضاً أن نعي الخط الفاصل بين الفلسفة والتحذلق، فمن الأوجب أن يكون هناك إنعكاس حقيقي للرؤى الفلسفية التي يريد المعماري المصمم تحميلها على النتاج بعيداً عن حذلقة التعبيرات الجوفاء التي لا اثر لها في الواقع.
 
الإنسان – الآلة
لا شك في أن العمل الحرفي يحمل قيم ثمينة ويحقق نوع من أنواع اتصال الإنسان بقدراته الإبداعية، ولهذا نجد الكثير من الأمم تحافظ على تراثها الغير مادي في صورة الحرف الأصيلة التي يمتلكها أبنائها وتحاول دائماً تطويرها بهدف جعلها حية ولحمايتها من الاندثار، ولكن إلى أي مدى نستطيع توظيف تلك الحرف في البناء؟ ومتى يقع الخط الفاصل بين المبالغة والرومانسية في الاقتصار على ما يتم إنتاجه بصورة يدوية وبين ما يمكن أن تؤديه الآلات؟ ومتى يكون استخدام الآله ضرورة لا غنى عنها مع الحفاظ على روح الصانع الذي يستخدمها؟ وإلى أي مستوى من التكنولوجيا يمكنا الوصول إليه دون الوقوع في فخ تنحية الإنسان وتحييده.
 
المحلية – العولمة
المتأمل لتراثنا البنائي يمكنه بسهولة أن يلحظ أنه كان يحمل بعض من سمات ما نسميه الآن “عولمة “، فالتجارة البينية بين حواضر العالم القديمة كانت توفر دائماً خامات إنشائية يصعب الحصول عليها محلياً كالأخشاب مثلاً والتي نجد الكثير منها مجلوب من مناطق بعيدة عن عالمنا العربي والذي يفتقر لوجود الغابات في أراضيه، وتوفر بنائين وحرفيين مهرة يفدون إلى بلادنا وقد يستقرون فيها ليعملوا في تشييد الكثير من المبان والصروح ذات القيمة، إلا أنه في ذات الوقت كان هناك دائما نوع من أنواع التوطين سواء للاستخدامات التي توظف فيها تلك الخامات أو للمهارات التي يحملها تلك البنائين المهرة، إذاً يمكن بسهولة تمييز حالة من الإنصهار في المجتمع المحلي والاصطباغ بصبغته وهنا يقع التحدي الذي علينا مواجهته في واقعنا المعاصر والذي يفرض علينا أن ننتبه لكيفية صياغة هذا “التوطين” اتقاء لفخ “التغريب” سواء في توظيف الخامات أو في توظيف المهارات.
 
القيمة – الكلفة
الموازنة بين القيمة والكلفة ليس المقصود منه إجراء دراسات الهندسة القيمية للتصميم بصورتها المباشرة والمرتبطة بالأبعاد الوظيفية وحسب، بل المقصود منه تقدير إمكانية تحقيق قيم مضافة واقعية يقدمها المشروع للمجتمع المحيط في إطار الجهد والوقت والميزانية المرصودة، فالإفراط في رومانسية تأثير المشروع على المجتمع على حساب التكاليف قد يؤدي في النهاية إلى توقف المشروع عند مرحلة “الأحلام”، فلن تجد مستثمر وصاحب بناء يمنحك ميزانية مفتوحة لتحقيق كافة طموحاتك مهما بلغت من قيم سامية، ولكن سيظل عليك المسئولية والعبء في ربط تلك الأهداف السامية بتحقيق مصالح المستثمر والموازنة بين المأمول والواقع، وأن تدرك جيداً أن تغيير هذا الواقع لن يأتي فجائياً ولهذا لا تقع مسئوليته عليك وحدك، فيكفيك أن تؤدي ما يقع على عاتقك وتخلص فيه ليأتي غيرك ويضيف إليه وهكذا.
هذه العينة من التحديات من المؤكد أن كل منا كمعماريين مصممين سيواجهها بطريقته الخاصة، ولكن سيكون علينا جميعاً تحري كامل الإخلاص والصدق في اتخاذ ما يناسبها من قرارات تصميمة تتجاوب معها، وبذلك أتصور أننا قد نغير واقعنا شيئا فشيئاً إن فعلنا، وسننتج عمارة أكثر صدقاً وارتباطاً بنا وتستحق أن تبقى لتصبح تراثاً لمن سيأتي من بعدنا.
 
للاطلاع على الدراسات الكاملة للفكرة التصميمة للمشروع يمكنكم زيارة الرابط التالي:
 
محمد الرافعي، 16 مايو  2025
 
 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة

  لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة   هذا هو الهدف الرئيس الذي تمحورت حوله رؤيتنا التصميمية للمشروع الذي صممناه حديثاً ونشارك أفكاره معكم . فالنسيج الكتلي المتضام، والفناء الداخلي، وخلق الفراغات المنحوتة في الكتلة من الداخل إلى الخارج، وتوظيف مواد البناء الطبيعية في الإنشاء، والتهوية…

هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم

  هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم   أتتذكرون طفولتكم وكم هي كانت جودة الحياة فيها؟ أتذكرون عندما كانت المباني تجسد صورة دقيقة لقسمات مجتماعتنا، وتحمل في طياتها قصصاً وأسراراً؟ عندما كانت الجدران تتحدث، والخشب يروي حكايات الزمن؟ اليوم، يبدو أن المباني فقدت روحها، وتحولت إلى مجرد هياكل خالية…

العمارة النظرية… وحب الظهور

  العمارة النظرية… وحب الظهور   وصلتني مؤخرًا دعوة للمشاركة كمتحدث رئيس في مؤتمر دولي يتناول قضايا التراث والترميم تحديدًا، فتساءلت في حيرة: من أين حصل المنظمون على معلومة أنني متخصص في الترميم؟ فهذا المجال لم أعمل به قط، ولا توجد لدي أي خبرة عملية مرتبطة به، لذا فأنا لست…

الصدق في العمارة

  الصدق في العمارة كلما شاركت بنشر أحد المشروعات التي أقوم بتصميمها مع فريقي التصميمي، في إطار محاولاتنا المستمرة لتحقيق مفهوم “العمارة الصادقة” الذي كنت قد طرحته منذ أكثر من ثلاث سنوات، ترد الي أسئلة كثيرة حول ماهية المفهوم؟ ومعاييره، والبعض يسأل عن احتمالية وجود عمارة “كاذبة” أو غير صادقة…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP