….البعد الغائب
مسابقة إعادة إعمار مسجد النوري بالموصل – العراق 2021
خلال الأيام القليلة الماضية تابع المجتمع المعماري والعمراني العربي حالة التخبط والصراع التي نجمت عن إعلان نتيجة المسابقة المعمارية الدولية لإعادة إعمار مسجد النوري والمنطقة المحيطة به في قلب مدينة الموصل العريقة. وعلى مدرا الأيام القليلة الماضية ومنذ إعلان تلك النتيجة وحتى كتابة هذا المقال فقد تلقيت العديد من الاتصالات واستمعت للعديد من وجهات النظر ولعل حظي ساعدني في أن أكون قريباً من الأطراف المعنية بالموضوع فتحاورت لساعات طويلة مع اشقائنا العراقيين من الأكادميين المخلصين أصحاب الباع الطويل في رصد وتوثيق المعمار المحلي الموصلي والمعايشين لكل ما ألم المجتمع المحلي هناك من محن والآم مستمرة حتى الآن وكذلك تلقيت اتصال من أحد أعضاء فريق التصميم المصري الفائز بالجائزة الأولى ودار بيننا نقاش احترافي هادئ امتد لساعات طويلة تعرفت من خلاله على ملامح الفكرة والفلسفة التصميمة التي تبناها الفريق .
ومن هذا وذاك تكونت لدي هذه الصورة التي قررت توثيقها بهدف جعلها مادة للنقاش المهني والموضوعي بعيداً عن لغة التعصب والتشنج وكيل الإتهامات ولترسيخ مبدأ الحوار العاقل المنطقي.
هناك مدخلان متباينان لتناول قضية إحياء وإعادة اعمار المناطق المنكوبة قد تناولهما بالتفصيل الرصين أخي وصديقي الدكتور جلال عبادة Galal Abada في مقال مفصل قمت بمشاركته وأضع رابطه في نهاية هذا المقال، وهما : “الإتباع” والإبتداع” كما سماهما في مقاله ، وكل مدخل تصميمي منهما له وجاهته ومنطقه وبواعث اختياره وتفضيلاته من قبل المجتمع المحلي وقد لا أبالغ نهائياً حينما أقول أنه وحدهم فقط السكان المحليون هم من لديهم الحق في تقرير أي مدخل منهما يختارونه ويكون مناسب لرؤيتهم الخاصة حول مدينتهم.
لقد تعودنا مهنياً واعتمدنا في توجيهنا لطلبة العمارة عند دراسة أي مشروع يتناول قضايا مماثلة أن نوضح أهمية البعد المحلي ودراسة النطاقات الاجتماعية والثقافية وملامح المجتمع الخاصة والتي تشكل منظومة للمحددات والمعايير التي تحكمنا في التصميم والتي نسميها “اعتبارات التصميم اللامادية” Non-Physical Design Consedrations ، ولكن الحقيقة أن تلك المعايير ليست جوامد بل هي تتأثر وتتغير بصروف الحياة اليومية التي يعيشها الناس والمجتمع والتي قد لا ترصدها أية استبيانات أو دراسات حالة اجتماعية يمكن إتاحتها للمصمم لترسم له خريطة تفصيلية للوضع الراهن للظروف الغير مادية لتلك الجماعة المحلية والتي أعتبرها في غاية الأهمية وسأطلق عليها:
“السياق الحالي اللامادي” The Recent Non-Physical Context
ذلك السياق هو بالضبط ما يصف الحالة الآنية للمجتمع المحلي ، رؤاه ، تفضيلاته ، الصراعات والضغوطات التي تحيط به ، منظومة أولوياته ، همومه اليومية ……إلخ وهذه الأبعاد الأنسانية الدقيقة لا يستطيع أي باحث خارجي أن يضع يده عليها أو يرصدها ناهيك عمن يعيش على بعد ألاف الكيلومترات عن المكان!!! فهي ليست تقارير أو احصائيات يمكن قرائتها وتشكيل تصور واضح من خلالها.

مفردات من ملامح العمارة الموصلية التقليدية
إن التصميم الملائم هو ما يبنى على رؤية واضحة تعكس الواقع وأدوات احترافية تترجم تلك الرؤية وضبابية تلك الرؤية بسبب غياب المعرفة التامة بتلك السياق هي ما أفرزت تلك المشكلة التي نعايشها الآن.
نحن أمام مجتمع محلي يعيش في واحدة من أقدم مدن أرض الرافدين وهي مدينة عريقة وقديمة قدم الزمان كانت تمثل درعا حامياً أمام المد الصفوي ضد الدولة العثمانية وخاضت معارك شرسة في هذا الصدد وكسرت شوكته في تلك المعارك، والمسجد النوري ينسب لصاحبه نورد الدين الزنكي المسمى في الموصل “بسادس الخلفاء الراشدين” هو ومأذنته الحدباء الشهيرة يمثلان رمز وتجسيد أساسي لتلك الهوية حتى باتت يتم تعريف الموصل بهما كمن يعرف مدينة بيزا الإيطاليه ببرج كنيستها المائل.
ذلك المجتمع يمر بحالة أشبه بالأيتام على مائدة اللئام و تحاول قوى عدة محو كل ما يمت لهويته بصلة فوفق روايتهم فأن مدينتهم قد تم تدميرها عن قصد وهذا التدمير كان تدميرا ممنهجا بالصورة التي قصد بها أن لا يترك أي رمز أو مبنى يحمل السمات الأصلية لهوية المدينة المعمارية حتى بات الناس وبعد عودتهم لمدينتهم المدمرة يلهثون وراء الأنقاض ليتلمسوا فقط أي ذكرى باقية والبعض منهم حاول بكل الطرق أن يوثق ما تبقى من الأنقاض لعله يحفظ الصورة للأجيال القادمة.
نحن أمام مجتمع يتم اضطهاده في بلده بصورة يومية ويتم سرقة ومحو تاريخه وذاكرته بصورة واضحة جليه وهذا ما عبرت عنه تلك الكلمات الصادقة التي أضعها هنا لأحد الأكادميين العراقيين الدكتور نبيل نجيب:
” يتوفى الله امرَأً فيعمد أهلوه ومحبوه لوضع صورة له يستذكرونه بها (رحمه الله) ويضعون شريطا أسود في إحدى زوايا الإطار، ولقد ماتت الحدباء قطعا، قتلوها قتلهم الله، وما زالت الموصل تقتل بأشكال شتى، وكل الذي سينجز في إعمارها هو إقامة شبيه لها، وليس الذهب الأصيل كالشبه. ندعوكم يا من نهضتم لإنشاء هذا الشبيه أن يكون كالأصل وليس مما تبتدعه مخيلاتكم كي لا تطعن ذاكرتنا من جديد. إن الإضافة لن تسعدنا ولن تزيد الحدباء شرفا. أعيدوا لنا المئذنة الحدباء كما كانت وبهو الجامع وباحته والميضأة وبضعة نخلات فيه، وآسوا ذاكرتنا الجريحة وحسب يرحمكم الله.”
الكلمات مؤثره ومعبره بصدق عن الصورة الآنيه التي يعيشها المجتمع الموصلي والتي أشببها كما الطفل الذي فقد أسرته في حرب قذرة فتهدم بيته وصودرت البقايا فتمسك بقطعة باليه من جلباب أمه فجاء إليه من يعرض عليه أن يستبدل له تلك القطعة بأخرى “حديثه” أو “جديده” وهو لا يدري أن تلك القطعة البالية تحمل رائحة أمه ومرتبطة عضويا بقلبه الذي يقاوم محو ذكراها بشتى السبل.
أن غياب تأثير وانعكاس هذا البعد الفائق الأهمية والدقة على النتاج التصميمي الذي يطرحه المشروع الفائز بالمركز الأول ، هو ما شكل تلك الصدمة العنيفة عند المجتمع الموصلي المحلي عامة وعند المعماريين العراقيين خاصة ، وهو ما تابعناه وشاهدنا تجلياته في ردود الفعل والكتابات والمقالات الغاضبة التي جميعها تحمل في طياتها رسالة واضحة “لمن يريد أن يفهم” وتقول:
“أنتم لم تفهموا همنا الحالي وما نسعى لنعبر إليه في المستقبل”……!!!!!
وفي تقديري أن هذا الغياب تتحمل مسئوليته في المقام الأول الجهة المنظمة للمسابقة وهي اليونيسكو ، وهي التي من المفترض أنها تلعب دوراً أمميا في الحفاظ على كنوز التراث الإنساني ومن المفترض أن توجه العمل في هذا المشروع بالصورة التي تحقق هذا الهدف بالصورة الأنسب سواء من خلال طرحه في مسابقة دولية أو القيام به من خلال خبرات محلية أو بالدمج بين ألأثنين عن طريق الزام المتسابقين باشراك خبراء محليين ضمن الفريق وهو ما كنت أراه أكثر ملائمة في هذا المشروع ، وأتمنى أن لا يجادلني أحدهم بأن اليونيسكو أكبر من أن تقع في تلك السقطة !!!! فالحقيقة أنني وعبر خبرة السنين تأكد لدي بأنه لا قداسة لتلك المؤسسات وأنها ليست فوق مستوى النقد أو الشبهات وأن البعض منها احياناً كثيرة يتحرك وفق أجندات سياسية نكون نحن أحد ضحاياها في دول العالم النامي أصحاب مراكز حضارات القيمة في العالم القديم.
الحديث عن العمارة الإنسانية والعمارة من أجل الناس ليس حديثاً رومانسياً وليس حديثاً من نوعية اسقاط الفروض والأبعاد الهامشية بل هو حديث عن “لب” العمارة والعمران. والقدرة على تضمين هذا البعد الهام في العمارة يحتاج إلى رهافة حس ومعايشة وتجرد من القيود المادية التي تكبل مخيلة المصمم. وأن فقدان ذاكرة المكان ليست بأمراً هيناً فأنا أعتبرها مثل الأوتاد التي تثبت بداخلنا حالة الاتزان النفسي والعاطفي فكلما فقدنا منها شيئاً تخبطنا وتغلب علينا القلق والتوتر والشعور الشديد بالإغتراب لأنها ببساطة شديدة لا تعوض ولقد صدق شاعرنا العبقري أمل دنقل حينما قال:
” ترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما…….هل ترى..؟…….. هي أشياء لا تشترى !!!!!! “
محمد الرافعي، 22 أبريل 2021