….البلاغة البصرية
دائماً ما تحدثت عن قضية التعبير البصري في العمارة وبكل تأكيد دائماً ما كنت أربطها مباشرة مع باقي عناصر العمل المعماري من وظيفة وإنشاء وأنساق بيئية وأبعاد اجتماعية …….وهكذا دائما ما كنت ألح في توضيح أن التعبير البصري في العمارة هو مماثل تماماً للتعبير اللغوي في اللغة، وأننا مثلما لدينا في اللغة المنطوقة أبجديات تشكل كلمات ومنها تتكون الجمل ومن مصفوفات تلك الجمل يتكون النتاج اللغوي سواء كان شعراً أو نثراً أو قصة ….إلخ ، فكذلك هو الحال تماماً حينما نتعامل مع التشكيل في العمارة فهناك ايضاً مفردات ثم تكوينات ثم جمل بصرية ثم سياق ونتاج.
نحن لا نحتاج إلى خرق النواميس الكونية بغية الوصول إلى تشكيلات مبتكرة ولكن يكفينا أن نكون صادقين ومتسقين تماماَ مع ذاتنا ومتصلين باللغة البصرية التي نجيد قواعد صرفها ونحوها، وفوق ذلك نجيد صنع صياغات تعبيرية بلاغية منها، فالإبداع التشكيلي لا يحتاج إلى خلق أبجديات جديدة فمجرد تعديل بسيط في النسب واللون والملمس كفيل بخلق شخصية جديدة بالكلية وإذا كنت تشك فيما أقول فأدعوك أن تنظر إلى وجهك في المرآه وتجيبني على هذا السؤال البسيط : كم هو عدد عناصر تكوين وجهك ؟
الإجابة واضحة : زوج من العينين وفم واحد وأنف واحد.
وهنا سأسلك سؤال آخر : ما مدى ثبات “القوانين التشكيلية ” أو العلاقات الهندسية التي تنظم تنسيق وتوزيع تلك العناصر بوجهك؟
أليست هي قوانين وقواعد ثابتة.!!! فالأنف والفم في محور المنتصف والعينين متماثلين حول هذا المحور.
وأخيراً هل هناك أيضاً قوانين وقواعد ثابتة تضبط وتحكم شكل كل عنصر منها على حدى؟ فالأنف لا بد وأن يكون مفتوحا لأسفل والعينان لا بد وأن يكونان في المواجهة فلم نرى أنف مفتوحاً لأعلى أو عين في وسط جبهة الرأس وهكذا!!!!!

مفردات تشكيل الوجه البشري والقوانين الحاكمة لصياغتها
والآن قل لي بالله عليك كم هناك من وجوه متفرده ومتباينه للبشر ومنذ الأزل وحتى يومنا هذا وجميعها بها نفس العناصر ولها نفس القوانين التشكيلية ؟؟؟؟؟؟؟ وكم لعبت النسب والألوان المختلفه في خلق وجوه مختلفهة كل تعبر عن شخص بعينه وذاته بل وماذا يحدث للوجه الواحد للشخص الواحد إذا ما تغير وجهه عابساً مرة أو ضاحكا مرة.
من هذا يا عزيزي يجب أن تعلم أن بيدك مجال لا نهائي من خلق تعبيرات وجمل بصرية مبدعة بمجموعة من الأبجديات ( الحروف ) التشكيلية البسيطة والأمر يعود لك كما يحدث في اللغة المكتوبة إما أن تجمع حروفها لتصيغ منها شعرا يفيض بالمشاعر والرؤى أو أن تكتب بها نثرا أو تكتب بها ما ليس له قيمة ولا وزناَ ، فالتقرأ معي هذا البيت الرائع من الشعر للراحل إبراهيم ناجي :
“يا حبيباً زرت يوماً أيكه طائر الشوق أغني ألمي”
ثم اقرأ معي هذا الهزل لشاعر معاصر مجهول:
“يا واحشني بشكل ماهوش عادي بقى هُنت عليك للدرجة دي”
الأثنان يعبران عن نفس المعنى “الشوق للحبيب” والأثنان قد كتبا بنفس الأحرف المنتمية للغة العربية والتي لا يزيد عددها عن ثمانية وعشرون حرف ابجدي، ولكن شتان الفارق بين هذا وتلك في قوة ومدى عمق التأثير الناتج عن الصياغة والتعبير اللغوي فالأول يسحبك إلى عالم واسع الأفق من الأحاسيس الفياضة التي تغمر روحك بالشجن وتشعرك بمدى الشوق واللهيب الذي عاني منه الحبيب لمحبوبته، بل ويترك لكل شخص يستمع إليه المجال وسعاً وسع الفضاء ليعيش الصورة المجازية التي يصنعها بطريقته ووفق خياله الخاص.
أما الثاني فهي فقير الخيال محدود المعنى سطحي في التعبير حتى أن البعض قد ينفر من مجرد سماعه.
إذاً ما الفارق ؟
الفارق الجوهري هو الصياغة والإبداع في توظيف وتركيب الأبجديات ونظمها لتكوين هذا البيت الرائع من الشعر، فالقيمة ليست في ابتكار أحرف جديدة ولكن الإبداع في نظمك للحروف المتاحة لتصوغ كلمات ثم جمل وإحالتها إلى نصوص أو أبيات شعر بها ما يسمو ويرفع ويؤثر في النفوس.
الصورة المرفقة هي لأحد المشروعات التي نعمل عليها ونحاول أن نطبق بها هذا الطرح والذي نعلم يقيناً أن هناك من سيرى فيها تشبثاً بما يحلو للبعض تسميته ” التقليدي” ولا يريد هؤلاء البعض أن يتفهم أن هناك من لا يزال يفضل التحدث بالمفردات “العربية” بدلا من الأجنبية!!!!

الواجهة الرئيسية للمشروع
فمالك هذا المشروع يعتز كثيراً بثقافته العربية ولا يجد في أي مظهر غربي ما يشده أو يبهره بل على العكس هو يستمتع كثيراً بكافة أشكال الفنون العربية.
في تقديري أنه حينما يصمم المعماري لأحدهم مسكناً خاصاً فيكون التصميم شكلاً وموضوعاً معبراً عن شخصية المالك فهذا حقه كمن يختار أن يرتدي زياً خاصاً ليعكس شخصيته وثقافته ومكانته الاجتماعية ولا يمكن لأحد أن يلومه مادام أنه لم يتطرف إلى حد كسر الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع أو التناقض معها.
وأنا أؤمن بأن كل إنسان له الحق في التعبير عن نفسه بالطريقة التي تلائمه بل وهناك ما هو أهم من ذلك بكثير ولا يلتفت له معظمنا ألا وهو أن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى الإحساس بالإنتماء لجماعة بعينها ، لأسرة ، لقبيلة ، لعرق ما ……..وهذا الإحساس هو أمر في غاية الأهمية للسلام الداخلي والشعور بالأمان والثبات النفسي، هذا الإحساس هو أمر فطري بداخلنا جميعاً وأحد وسائل التعبير عنه هو “الشكل” فنحن نرى الشعوب والجماعات قد تتخذ زياً موحداً وكذلك المهن كالعاملين في الجيش أو الشرطة أو الطيران….إلخ جميعهم يتمايزون بالإلتزام بشكل موحد يمكنهم من خلاله أن يعرفون ويقدمون أنفسهم للآخرين بكونهم ينتمون لهذه الفئة أو تلك المهنة أو هذه الجماعة.
لا يستطيع أحد أن يدعي بأن من يفعل ذلك هو غارق في “التقليدية” أو متخلف عن قطار “الحداثة” ، ومن غير المنطقي حقيقة محاولة تبديل أو تغيير واستبدال مثل تلك “الأبجديات البصرية” بأخرى بغرض “التجديد” أو “التطوير” فالأمر يصبح كمن يستخدم الأحرف اللاتينية مع العربية بهدف صياغة “جديدة” وهذا محض العبث.
هذه الثوابت حتى وإن كانت تمس الشكل والتعبير البصري فقط إلا أنها تمثل قيمة كبيرة ولا أبالغ إن ذكرت أنها قد تكون “هدفً ” في حد ذاتها أحياناً. ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالموقف من “الحداثة” ، فهي تعبيرات حاضرة وستظل بقوة في حياة الشعوب. فالشماغ الملكي الذي يرتديه أشقائنا بالسعودية والعمامة البيضاء التي يرتديها أشقائنا بالسودان والعباءة الصوف التي يرتديها أهلنا بصعيد مصر……إلخ ، جميعها “شيفرات” أو صياغات بصرية تعبر عن الجماعات والأعراق التي ينتمي إليها أصحابها.
الغريب أن هذه الفطرة للتعبير عن الإنتماء بالشكل قد تفرض أحياناً على البعض اختراع كيان أو جماعة لمجرد اشباع الحاجة النفسية لها ، فعلى سبيل المثال نحن نلاحظ أن جماعة راكبي الموتسيكلات الهارلي ديفيدسون قد صنعوا لأنفسهم زياً وسمتاً بصرياً خاصاً بهم لنفس ذات السبب فتجدهم جميعاً مفتولي العضلات يضعون وشوم على أجسادهم ويرتدون نفس ذات القطع بنفس اللألوان بحيث يمكنك تمييزهم بسهولة وكأن الواحد منهم يريد أن يقول للمجتمع : أنا أنتمي إلى جماعة راكبي الدرجات هارلي ديفيدسون…..
إذا ما وسعنا دائرة التأمل ستجد أن الإنسان ليس هو المخلوق الوحيد الذي لديه هذه الحاجة أو يتمتع بتلك الصفة فالكون من حولنا مليئ بالأمثلة التي يكون فيها الشكل هو وسيلة للتعبير عن “الصنف” أو “النوع” أو ” الجنس” أو “الفصيلة” …….وهكذا.
الموضوع جد شيق ويمكن التوسع فيه من خلال بحث أو عدة أبحاث أكاديمية مضبوطة وقد يسعدني كثيراً لو تحمس أحد شباب المعماريين في تبني هذا الموضوع وتتبعه وقد يسعدني أكثر أن اشاركه الأمر لعلنا نقدم للمكتبة العربية ما يضيف لأدبيات الفكر المعماري العربي.
ختاماً أتصور أن علينا إذاً أن نتفهم بأفق واسع وبمرونة فكرية أن ما ننعته “بالتقليدي” “البائد”، قد يكون هو عين ما يحتاجه البعض للتعبير عن نفسه ليعيشوا في سلام داخلي ويسد حاجتهم للإنتماء.
محمد الرافعي، 19 أبريل 2021