بين التنوع الثقافي والتنوع البيولوجي
الاستدامة لا يجب أن تقتصر فقط على الشق المادي للبيئة كتقليل استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية واستهلاك المواد وهكذا …..وإن كان ذلك كله ذا أهمية كبيرة ولكن من المهم أيضا أن تمتد ظلالها لتشمل الشق الغير مادي فالتنوع الثقافي في تصوري لا يقل أهمية عن التنوع البيولوجي وإذا كان الهدف الأسمى لفكر الاستدامة هو الحفاظ على الأرض صالحة لاستمرارية العيش فيها للأجيال القادمة فلا يمكن لتلك الأجيال أن تحيا في صورة صحيحة أو تحافظ على بيئتها بعيدا عن ارتباطها بجذورها الثقافية والحضارية والمعرفية التي طورها أسلافهم في رحم تلك البيئة الطبيعية الخاصة بموقعهم في هذا الكوكب عبر آلاف السنين.
هذا الأمر يسير تماما في اتجاه عكسي مع فكر العولمة الذي تسعى لترسيخه الكيانات الرأسمالية الضخمة المسيطرة على عالمنا اليوم لأنه لا يهدد فقط مكاسبها الضخمة بل يهدد وجودها في الأساس.
ولأضرب لكم مثالا بسيطا على ذلك فإذا تخيلنا أنه إذا ما عاد مشروب الكركديه أوالتمرهندي مثلا ليصبح المشروب “المنعش ” الشعبي مرة أخرى لأهلنا في جنوب الوادي وأسوان لأنه الأبن الشرعي للبيئة الطبيعية بجنوب مصر وبالتالي فهو مكون أصيل في الثقافة المحلية المتجذرة في المجتمع هناك فحتما سيكون ذلك على حساب المشروبات الوافدة من الخارج كمشروب “البيبسي كولا” مثلا والذي تتربح منه شركة أمريكية عابرة للقارات ويتم نقل مكوناته عبر آلاف الكيلومترات لتجني من وراؤه المليارات من الدولارات ويدعمها في ذلك نظام “العولمة” الذي يسعى بكل طاقته لتحويلنا جميعا لصورة واحدة نمطية خالية من الملامح الخاصة.
وقتها ستتعافى البيئة الطبيعية من مئات الأطنان الكربونية التي تستهلك في سبيل توفير منتج تلك الشركة الأمريكية في كل بقعة على سطح الأرض، وليس ذلك فحسب بل سيتجنب أهلنا الأضرار التي يسببها ذلك المشروب الوافد وسوف يجنون الفوائد الصحية الجمة التي يوفرها لهم مشروباتهم المحلية.
هذا المثال يمكنكم تتبعه في العديد من المنتجات التي اعتدنا على استخدامها وتوظيفها في حياتنا فالتنميط احتل مساحات واسعة فيها من الملابس للمأكولات لخامات البناء …….الخ ولم يتوقف عند حدود الأشياء المادية بل يتمدد في عروق ثقافاتنا ونتاجنا الفكري وعلى حساب موروثاتنا وهويتنا الأصلية المرتبطة ارتباط وثيق ببيئتنا المحلية وما النماذج التشكيلية المعمارية الغريبة التي نراها تغزو بلادنا الا صورة من صور هذا التمدد التنميطي والتي جميعها يراد من ورائها أن نتحول الى نسخ ممسوخة تابعة ومستهلكة.

هويتنا في مقابل مسوخ العولمة
المدهش أن الوافد إلينا يدخل دائما من الباب الواسع المسمى “الحداثة” والذي يتم توسعته يوما من بعد يوم على حساب أصولنا وميراثنا بل ومبادئنا أيضاً وهو مدخل خبيث يزين للعامة وأصحاب الثقافة الهشة أن هذا هو معبرهم الوحيد نحو التقدم والتجدد وهم مع الأسف يتوهمون ذلك ويغفلون حقيقة أنه يسلبهم حقهم في الإنتماء الحقيقي لأرضهم التي ورثوها عن أجدادهم.
محمد الرافعي ، 26 يناير 2023