حسن فتحي ، الحقيقة الغائبة
رسالة سأظل أذكر بها وأكررها ما حييت وأتمنى توجيهها إلى الأجيال الشابة من المعماريين ليعرفوا من هو المعماري المصري العظيم : حسن فتحي.
بادئ ذي بدء ، لن تعرفوه حقيقة مالم تقرأوا بوعي شديد كامل كتابه الأشهر : ” القرنة – قصة قريتين ” والذي يعرف تجاريا بأسم ” عمارة الفقراء ” والذي ترجم لعدة لغات ويمكن الحصول على نسخه رقمية منه بسهولة من على الأنترنت وحبذا لو قرأتم أيضا كتابه الثاني ” الطاقة الطبيعية والعمارة الشعبية” وهو أيضا متوفر على الأنترنت.
بدون قراءة هذين الكتابين الرائعين والملهمين لا مجال لأحد أن يدعي بمعرفة هذا المعماري العظيم.
في هذا المقام لابد لي أن أوضح تحفظي الشديد على مصطلح “عمارة الفقراء” الذي يتم إلصاقه “بخبث” للمبادئ المعمارية التي نادى بها أستاذنا حسن فتحي.
في الحقيقة أتصور أن هذا المصطلح هو حق يراد به باطل وبه قدر من العنصرية المستتره ، والمعلومة التي تغيب عند الكثيرين أن أستاذنا حسن فتحي لم يختر هذا العنوان لكتابه بل كان العنوان الأصلي الذي اختاره لكتابه هو ” الجرنه – قصة قريتين ” والذي اخترع هذا العنوان “الغير موفق من وجهة نظري ” هو جامعة شيكاغو حينما أعادت طبع الكتاب.
ومع كل أسف تسبب هذا العنوان العنصري في خلط الأوراق وإعطاء إنطباعات خاطئة عن مجمل المبادئ والأفكار المعمارية العامة التي تحدث عنها أستاذنا حسن فتحي. وهناك فرق شاسع بين أن يقول حسن فتحي : ” أن فقراء العالم هم عملائي “، في إشارة منه لمحاولة إنزال ممارسة العمارة من برجها العاجي النخبوي الذي طالما اقترنت به، وبين أن تكون هذه العمارة هي محصورة على هذه الطبقة المهمشة في المجتمعات الإنسانية.
أعترف أن العمارة هي نشاط إنساني نخبوي في غالب الأحيان ولكن في نفس الوقت فإن الأفكار والمبادئ المعمارية التي نادى بها أستاذنا حسن فتحي لم تكن أبدا تخص فئة معينة تحديدا بل هي مبادئ عامة تسري على جميع المجتمعات بكافة مستوياتها الإقتصادية.
ومن منطلق أن المبادئ لا تتجزأ فإن العمارة لا يجب وأن تفرق بين غني وفقير في جودة المنتج التصميمي ولذلك فأنا أؤمن بمسمى أكثر ملائمة ألا وهو “العمارة المتوافقه” وهو مصطلح يأخذ في إعتباره أبعاد كثيرة من ضمنها البعد الإقتصادي الإجتماعي للمستخدمين ولذلك لا يجب وأن تكون هناك عمارة للأغنياء وأخرى للفقراء !!!! وإذا كان المقصود هو البعد الإقتصادي فقط والمتعلق بتكلفة البناء فهذا يمكن استيعابه في مصطلح ” العمارة المتوافقه “، فنحن نرى كثير من التطبيقات التي تخفض التكلفة وتجد حلول مناسبة لإحتياجات المستخدمين الوظيفية والإنسانية في إطار بيئاتهم المحلية بأقل تكاليف ممكنه وهذا الشق من العمارة هو الشق الهندسي الذي يجب ويتكامل بالكلية مع الشق الفني والإنساني للعمارة وهو الذي مرة أخرى يجب وأن لا يفرق بين الناس في مستوياتهم الماديه. وختاما ساظل أردد دائماً بأن ” الجمال الذي تصنعه العمارة لا يشترط الكلفة الباهظة لكي يتحقق “.
من المؤسف والمخزي حقيقة أن نرى من يختزل حسن فتحي في أنه مجرد ” ستايل ” Style أو أنه معماري القباب والأقبية أو أنه معماري العمارة الشعبية أو معماري البناء بالطين …..إلخ إلخ. والمحزن حقا أن تجد هذا الإختزال والتسطيح يأتي من معماريين وأكادميين من المفترض أنهم محترفين وليسوا من عوام الناس ، الأمر الذي أعتبره نوعا من أنواع السطحية المبتذله إن كان عن جهل ونوع من أنواع المرض النفسي إن كان عن عمد وقصد.
حسن فتحي في الحقيقة بخلاف كونه معماري مبدع هو صاحب مدرسة فكرية وفلسفية عميقة، العمارة هي أحد أدوات تطبيقها وإخراجها للواقع وليست الأداة الوحيدة.
هذه المدرسة يمكن ذكر لمحة من مبادئها في التالي:
– أن تنمية المجتمعات المحلية هي الضمانة القوية لتحقيق العدالة والكرامة الإنسانية المفتقده في العالم المعاصر.
– أن لكل جماعة إنسانية ما يميزها من ملامح ثقافيه واجتماعية وأن الحفاظ على هذه الملامح وتعزيزها هو من أساسيات الحفاظ على هذه الجماعات نفسها وتعزيز بقائها.
– أن التقنيات المرتبطه بعالم الأشياء والتي تؤثر في الإحتياجات الأساسية للناس يجب وأن تكون في متناول أيديهم وفي نطاق إدراكهم.
– أن التراث المتناقل عبر أجيال متعاقبة هو السجل الحي لتطور علاقة الإنسان بالمكان وبيئته المحيطة وأن هذا التراث ليس بشيئ جامد بل هو دعامة حيه لتأصيل النتاج في المستقبل وأن ” القديم هو ما استحق أن يبقى لكي يصير قديما “.
– أن هناك قطاع عريض من البشر هم ضحايا الفكر الرأسمالي المتغول وأن هؤلاء يحتاجون لمن يدعمهم من المهنيين المحترفين وهم قادرون على حل مشكلاتهم ذاتيا إذا ما وجدوا من يقدم إليهم الفكر المنظم.
– أن النظرة باستخفاف للمواد المتوفرة بكثرة والتي تمنحها الطبيعة الأم كالطين مثلا هو محض جهل بإمكانيات تلك المواد فبإمكان التوظيف الذكي لها أن يخلق حلول مبتكره لمشكلات كبيرة.
– أن أي عمل تنموي لا يكون الإنسان هو هدفه ومحوره هو عمل قاصر ولا قيمة له.
أن حسن فتحي من خلال مدرسته الفكرية قد كان له السبق في التالي :
– هو من أوائل من تحدث فيما نعرفه اليوم بالـ Sustainability حينما تحدث عن استخدام مواد البناء المحلية وإعادة التدوير والتقليل من استهلاك الطاقة ورفع جودة البيئة الداخلية للمباني.
– هو من أوائل من تكلم عن مبدأ مشاركة المجتمع المحلي في البناء Public Participation حينما أشرك أهالي الجرنة في القرارات التصميمية الخاصة ببيوتهم
– هو من أوائل من نادى بمدأ البناء التعاوني Collaborative building حينما تحدث أن عشرة أشخاص يستطيعوا أن يبنوا عشرة بيوت ولكن الفرد الواحد لا يستطيع أن يبني بيته.
– هو من أوائل من أعاد لخامة الطين الثقة في القدرة على استخدامها في البناء وذلك بعد مرور أكثر من مائة عام على ما نادى به فرانسواكوانترو في فرنسا بتقديمه البيسيه الجديد.
– هو أول من تحدث عن مفهوم الهوية المعمارية وعن ارتباط ذلك بمفردات التعبير البصري في كافة عناصر عالم الأشياء المحيط بجماعة بشرية ما فيظهر في ملبسهم وفي أدواتهم وفي مبانيهم …إلخ
كل هذه المباديء وغيرها كثير لا يتسع المجال هنا لذكرها جميعا، كونت القالب الرئيسي للمدرسة الفكرية التي أنشأها هذا العبقري وهي قد ألهمت الكثيرين في مختلف المجالات ولم يقتصر تأثيرها فقط على الممارسين للعمارة والبناء وتخطى نطاق تأثيرها حتى وصل لشتى بقاع العالم، أما على مستوى العمارة وهي الأداة التي صاغ من خلالها حسن فتحي أفكاره فيمكن أن أؤكد بأن مدرسته الفكرية قد أحدثت تغيرات جذرية حتى باتت العمارة الدولية قبلها ليست كما هي بعدها ، الأمر مشابهه تماما لما حدث بعد إنشاء مدرسة الباوهاوس في ألمانيا والتي نادت بخضوع العمارة لفكر وأبجديات الصناعة وكذلك مدرسة العودة للطبيعة التي نادى بها فرانك لويد رايت في أمريكا.
المتأمل لأعمال حسن فتحي نفسه يستطيع أن يلحظ بسهولة الفارق الجوهري بين أعماله في بدايات ممارسته للعمارة وأعماله اللاحقة والمتأثرة بمدرسته الفكرية، أعماله الأولى ” كفيلا مانسترلي ” على سبيل المثال هي مجرد تصميمات إحترافية فقط مثله كمثل سائر المعماريين المعاصرين له في تلك الفترة والمتأثرين فيها بالعمارة الغربية والتي انحصرت قيمة أعمالهم من وجهة نظري حقيقة في مجرد التصميم باحترافية والعناية بجودة التفاصيل مع خلو تلك التصاميم من فكره تحمل رسالة واضحة يمكن ان تتناقلها الأجيال من بعدهم سوى ” إجادة العمل “. أما أعماله اللاحقة في مشروع القرنه أو واحة باريس مثلا فهي مثلت قمة العمق في ترجمة مدرسته الفكرية إلى واقع معاش من خلال منظومة كاملة محورها “البناء”.
من المؤسف حقيقة أن يظلم حسن فتحي في بلده حياً ويظلم مرة ثانية في بلده ميتاً !!! فأنا لا أتحدث عن احتفاليات التأبين التي تعقد في ذكرى وفاته والتي لا تزيد عن كونها مكلمة لكل من جاوره أو إلتقى به أو صادفه وكأنهم يستعيرون قدر من عظمة فكره بمجرد مجاورتهم له !!!! ولا أتحدث عن مقالة يتم كتابتها هنا أو هناك وتوصف أعماله بأوصاف هزلية سطحية ركيكة ، ناهيك عن الظلم البين في مساوته بمن عاصروه من معماريين يطلق عليهم مجازا ” رواد ” على الرغم من تقريع فرانك لويد رايت لأحدهم ” وهو كان تلميذا له في ذلك الوقت ” في زيارته للقاهرة بعد أن لمس بعينه عظمة العمارة المصرية القديمة وتوبيخه له لكونه يتحرى تقليد العمارة الغربية في تصميماته !!!!!!!!!.
ما أتحدث عنه ويمثل قمة الظلم له ولكل أجيال المعماريين من بعده هو أن تترك أفكارة ليستفاد بها خارج مصر وتبنى عليها مؤسسات تنتج علما وتطبيقات متعدده ونحن حتى اللحظه لم ننشيء مركزا بحثيا للبناء بالتقنيات المتوافقة التي طرحها في أعماله!!!!!!! ، نحن حتى اللحظة لم ندرس تلك الأفكار في كليات العمارة عندنا !!!!!!!! نحن لم نؤلف كتابا واحدا إحترافيا يتناول ويرصد أفكاره ويحللها بأمانة ومهنية بدقه ويقدمها للأجيال الشابة لتستفاد منها نحن حتى اللحظة نتعامل مع أعماله وكأنها أثار لا أكثر فضلا عن إهمالها لعقود طويله وفقط صدر مؤخرا القرار بترميم أهم أعماله ” مباني قرية القرنه ” كنوع من أنواع ذر الرماد في العيون أو لغسل خطيئة إرتكبناها طوال الثلاث عقود الماضية في إهمال تلك الأعمال النادرة!!!!
ختاما أقول أن حسن فتحي لا ينتظر من يرمم أعماله بقدر ما ينتظر أن تطبق أفكاره ، فالأشخاص زائولن وتبقى الفكرة.
محمد الرافعي ، 1 نوفمبر 2018