خبيئة عمارة الحضارة الإسلامية – الجولة الأولى

 
 
لسنوات عدة بعد تخرجي من الجامعة كنت أحرص على التجول في قصبة المعز وما يتفرع منها من حارات وأزقة في محاولات دؤوبة مني أن أعوض النقص الشديد في تعلم أنساق العمارة المحلية والتراثية في مناهج الدراسة التي كان يتم تدريسها لنا في الجامعة والتي كانت تكتفي بتناول عمارتنا المحلية بصورة هامشية وسطحية ركيكة كنوع من أنواع “الأثار” في تاريخ العمارة.
لقد كانت جولاتي هي نزهة فكرية من التأمل والتحليل قبل أن تكون متعة بصرية بين كنوز لا تنتهي من الأنساق البنائية والحلول والمعالجات المعمارية والإنشائية والبيئية حتى أنني وفي تقديري الشخصي أرى القاهرة الفاطمية من أعظم إن لم تكن الأعظم على الإطلاق كمدرسة لعمارة الحضارة الإسلامية لما تحتويه من طبقات متراكمة من النتاج البنائي المعبر عن حقب زمنية متتابعة كل لها سماتها وأفكارها وتقاليدها البنائية وحرفها وفنونها وكأن القاهرة قد خصها التاريخ دون غيرها ليسجل عبر نسيجها صفحاته الخاصة عن كافة عصور الدولة الإسلامية ففيها أثار الدولة العباسية والفاطمية والأيوبية والطولونية والأخشيدية والمملوكية والعثمانية ……طبقات وطبقات لا تنتهي والمدهش حقيقة أنك تجدها في حالة مجانسة وكأنها حلقات في سلسة مترابطة لا تستطيع أن تلمح أية فواصل أو أي تضارب أو تنافر بين بعضها البعض وكأنها على الرغم من تباين حكامها وتباين رعاة هذا الكنز البنائي الضخم واختلاف مشاربهم وجذورهم إلا وكأن القاهرة قد صهرتهم جميعا في بوتقة واحدة وخلقت حالة من التجانس الرائع داخل حلقات سلسال هذا النتاج.
أتعجب حقيقة حينما أجد الكثيرين من المعماريين الشباب من يعلق نظره تجاه الغرب ويلهث وراء عمارته ونتاجه فيتتبعه ويرصده ويدرسه ويتأسى به ويغفل أو لا يدرك أن تحت يديه كنز عظيم مبهر عميق المعنى متخطي القيمة ثري المعالجات يحمل فلسفة عابرة للزمان ……..يكمن في هذه المدينة العتيقة.
لقد استخدمت لفظ “خبيئة” وأنا أعنيه حقيقة لأنه في لغة الأثاريين أن الخبيئة هي “الكنز المصنوع من الذهب” والذي يكون غالبا مدفون تحت التراب لأعماق كبيرة ويحتاج لجهد وصبر كبيرين حتى يمكن الوصول إليه.
أتصور أن حالنا مع النتاج البنائي التراثي العظيم في القاهرة هو بالضبط كما الخبيئة التي لا تزال ترقد تحت “تراب” النظرة المعمارية الغافلة التي لم تكشف عن خباياها وترفض البحث عن قيمتها والتعلم منها وقليل منا كمعماريين من استطاع أن يكتشف حقيقتها ويستخرج منها قيمها ومواطن قوتها وأسرارها. نعم هذا حال الكثيرين من المعماريين في بلادنا مع الأسف في نظرتهم إلى ما يوفره هذا الكنز من دروس عظيمة تصلح إذا ما تأملناه واستوعبناها جيدا أن نستلهمه في صنع معمار محلي صادق ومعاصر في نفس الوقت.
مدخل جامع السلطان المؤيد شيخ
تعرفون أنني لا أستخدم مصطلح “العمارة الإسلامية” وأفضل تسميتها بـ “عمارة الحضارة الإسلامية” وأقول لكم أن قاهرتنا هي عاصمة هذه العمارة في الشرق الأوسط.
في جولة استغرقت مني ست ساعات تقريبا مشيا على الأقدام وبقيادة صديق العمر وأخي الحبيب وليد خيري Waleed Khairy المعماري الموسوعي الذي أفاض علي بشروحات كثيرة حول الخلفيات التاريخية لما نراه ليعيد إنعاش ذاكرتي عن تلك الأماكن “العبقرية ” تجولنا كما العاشقان هناك وأنا في قمة السعادة لعودتي لهوايتي المفضلة للتجول في معشوقتي إلا أن هذه السعادة الغامرة امتزجت بكثير من الحزن والأسى وشعرت بغصة في قلبي لحال تلك الكنوز وما تعانيه من إهمال كبير حتى أنني تمنيت لو كان الأمر بيدي فأقوم برصد ميزانية ضخمة لترميم كافة مبانيها الأثرية دون استثناء وإعادة بناء ما تهدم منها حتى لا أترك حجرا واحدا أو قطعة خشب صغيرة إلا وقد أعدتها لموقعها واستخدمتها بعد تخليصها من التعديات ومظاهر الفوضى والعشوائية التي انتشرت فيها كمرض سرطاني مخيف ينهش في نسيجها ويخرب أثارها.
دركاة مدخل مسجد المؤيد شيخ
 
بالنظر إلى القرارات الصارمة التي طبقت الفترة السابقة بنزع الملكية للمصلحة العامة لتوسعة طرق وإنشاء كباري أتصور أن القاهرة الفاطمية هي الأولى وتحتاج لنفس القدر من الصرامة في تخليص مبانيها الأثرية من عدوان تلك التعديات العشوائية والتي تتسبب في تأثيرات مدمرة على تلك الكنوز التي لا يمكن تعويضها أبدا في حال فقدانها لا قدر الله.
ماذا لو تم تفريغها من كافة الأنشطة المدمرة ونقلها لأماكن أخرى؟ ماذا لو تم تدشين مشروع قومي ضخم يتم من خلاله إحياء كافة الحرف اليدوية والبنائية التقليدية والتي أندثر معظمها والمتبقي منها على وشك الاندثار ماذا لو تم تكوين جيش من شباب الحرفيين المهره والمهندسين والعمال في كافة الفنون والتخصصات لتولي مسئولية الترميم باحتراف لجميع المباني وتحويل القاهرة الفاطمية لأكبر متحف مفتوح يتخلله فنادق بوتيك صغيرة تشغل المبان السكنية القائمة بعد تطويرها فضلا عن مراسم للفنانين ومكتبات ومراكز ابداع ومعارض نوعية مع منع الحركة الألية بكافة أنواعها ويعاد توظيف بعض المباني بنوعية من الاستخدامات الملائمة ويتم توفير جولات احترافية للسائحين بقيادة شباب متعلم وواعي وتوفير لوحات تفاعلية توفر للزائرين للمكان كافة المعلومات والخرائط.
هذا الحلم الذي طال انتظاره كثيرا لا أعلم لماذا تأخر تحقيقه على الرغم من أن هناك مشروعات أكبر منه بكثير تم إنجازها بسرعة البرق !!!!!؟ وهي مشروعات لا تدر دخل على الإطلاق!!!!!
لماذا نتكاسل وننتظر وننتظر ونحن نرى تلك الكنوز يتم تدميرها أمام أعيننا؟
لماذا لا نستثمر كل طاقاتنا وأموالنا في مشروع كهذا ونحن نعلم يقينا أنه سوف يعيد إلينا ما استثمرناه فيه أضعاف مضاعفة؟!!
إلى متى سيظل تراثنا البنائي في نظر الكثير من معمارينا مجرد “أنتيكات” قديمة باليه لا نتعلم ولا نستلهم منها كيفية إنتاج عمارة محلية حقيقية مبدعة؟
إلى متى ستظل تلك “الخبيئة” في انتظار من يكتشفها وتفتقر لمن يعي قيمتها فينفض عنها التراب ويعيد إليها رونقها ومكانتها التي تستحق؟!
سوف أترككم تستمتعون بكافة الصور والتي نشرتها على صفحتي في الفيسبوك من خلال هذا الرابط:
 
محمد الرافعي، 9 يوليو 2023
 
 

 

 
 
 
 

 

 

 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خبيئة عمارة الحضارة الإسلامية – الجولة الثانية

  خبيئة عمارة الحضارة الإسلامية – الجولة الثانية   مرة ثانية اكتب عن كنوز القاهرة الفاطمية المعمارية والعمرانية، تلك الخبيئة التي لا تزال مدارسنا المعمارية منصرفة عنها وتدير لها ظهرها ويأبى الكثير من اساتذتها أن يستخلصوا الدروس منها وينقلوها لطلابهم. لعل هذه الجولة التي امتدت لحوالي ثمان ساعات تقريبا مشياً…

نحن والتراث – جدلية لا تنتهي

   …نحن والتراث – جدلية لا تنتهي   العمارة التركية الحديثة حالها لا يقل بؤساً عن حال العمارة في كثير من بلادنا العربية حيث فقدان الهوية والتنكر للإرث الحضاري واللهاث الغير واع وراء الصرعات الغربية سمة غالبة على معظم النتاج البنائي الحديث، يستثنى من ذلك عمارة المساجد التي حافظ الأتراك…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP