….مساحيق تجميل لعمران المدن

 
كثير منا يعجب بالمدن التراثية كالقاهرة وبغداد وإسطانبول وحلب ….، وكثير منا يغمره إحساس بالراحة والرومانسية وشغف القلب وهو يتجول بين حاراتها وازقتها الضيقة والمتعرجة ويبتهج بما يتيحه له النسيج العضوي المركب لتلك المدن من مفاجأت بصرية شيقة تجعله يشعر وهو يتجول بداخلها وكأنه في عالم سحري لا يريد أن يفارقه فالمنظور غني بتراكيب من الكتل والظلال والنور المتداخل مع تفاصيل الأبنية وقطع من السماء وأحيانا روائح الزهور والأشجار …جميعها تكون تجارب فراغية رائعة.
ويتسائل الكثيرون منا عن السر الكامن وراء تخطيط تلك المدن ولماذا نشعر بكونها تبعث بنا الحياة من جديد على عكس مدننا “الحديثة” التي نشعر وكأنها تخنقنا وتموت فيها مشاعرنا وذواتنا الإنسانية؟
في تقديري الإجابة تكمن في أن جميع تلك المدن قد نمت على مراحل زمنية ممتدة ونشأت من خلال تراكم غني من القرارات التصميمة المركبة التي كان ينتهجها سكانها في تلقائية واستجابة مباشرة وعفوية لاحتياجاتهم ومحددات البيئة المحيطة بهم، ومن خلال منظومة بسيطة للقواعد والأعراف الناظمة لحركة العمارة والعمران بينهم والتي كان من أشهرها قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” في مدن الدولة الإسلامية وغيرها من القواعد التي يعلمها كثير منا من المصممين، وهذا كله كان يتم في سياق زمني طويل وممتد عبر عقود بل وقرون من الزمان.
ذلك الزخم من القرارات المتراكمة التي كانت الجماعات المحلية تتخذها هي ما أفضت للنتيجة العبقرية المبهرة والغنية بالتفاصيل المدروسة بعناية التي نراها ونعشقها الآن.
لقد كان الدافع أو الوعي العام الذي يحرك آلية نشوء هذا النتاج العمراني هو فقط توفير الاحتياجات الإنسانية ليحيا الناس في “أمن” و”راحة” و”سلام”، تلك هي الثلاث غايات التي جميعها تدور حول “الإنسان” وتحقق الغاية الكبرى للوصول لعمران مجتمع سوي.
حارة التمبكشية بالجمالية
الثراء والتنوع في الصور البصرية والمقياس الأنساني الحميم – حارة الدرب الصفر بالجمالية
 
على النقيض تماماً نجد المدن التي نسميها “حديثة”، هي مدن تنشأ بقرارات فردية وفوقية في آن واحد وبالتأكيد مهما تعاظمت قدرات هذا الفرد أو حتى الفريق المخطط لا يمكن لها أن تحاكي قدرات “الجماعة” فهي ببساطة شديدة محكومة بمخيلة وخبرات هذا الفرد أو الفريق ومدى قدرته على الرؤية الواسعة لجميع الاحتمالات الممكنة للاحتياجات الفردية للسكان ومن هنا نشأ ما نعاني منه جميعاً وهو “التنميط” في نسيج شبكي متعامد والذي يخرج لنا نماذج تكرارية فقيرة للتنوع وعاجزة عن مقابلة الاختلافات الفردية التي يتميز بها البشر!
ليس ذلك فحسب بل هي قرارات مرهونة بسياق زمني محدد وقصير جداً لا يكفي بالمرة لاستشراف المستقبل وما يمكن أن يحمله من تطورات بعضها قد يكون جذري فتصبح ما سميناها “حديثة” هي عبء على الحداثة ذاتها!
وحقيقة أنا في تقديري أعتبرهذه “جريمة” مهنية تمارس ضد حق الناس في التعبير عن فرديتهم وضد حق الأجيال القادمة في المشاركة في صنع البيئة المبنية التي سيقضون جل حياتهم بها وفق رؤيتهم وتطلعاتهم!!!
والأهم من ذلك أن هناك فارق جذري في الدافع المحرك لنشوء تلك المدن ألا وهو في المقام الأول “الاستثمار” ..!! نعم الاستثمار وجني المال والأرباح حتى وإن كان المعلن أمر آخر، فلو دققنا رويداً في المحددات التصميمية الحاكمة لتخطيط تلك المدن سنجد أن جميعها تقريبا تحكمه “المادة” وتغيب عنه الأبعاد الإنسانية ناهيك عن الفردية فشبكات الطرق تحدد أسعار قطع الأراضي ومناطق الخدمات تصمم لتنشيط التجارة والاستهلاك قبل توفير الاحتياجات ومساحات قطع الأراضي وابعادها تخاطب الطبقات الثرية وبعيدة عن متناول العامة والإرتفاعات المسموح بها تشجع على المضاربات وتعظيم تركيز الثروة في يد القلة، ناهيك عن أن شبكات مسارات الحركة جميعها تحكمها القوانين التي تفرضها “الآله” وليس الإنسان.
سيطرة الحركة الآلية على مخطط المدينة على حساب “الإنسان” – شارع عباس العقاد بمدينة نصر ، القاهرة
 
لقد كانت المدن التراثية محكومة بقواعد وأعراف مهمتها فقط هي “تنظيم” حركة العمران بين الناس لكي لا يجور أحد على حق الآخر، أما مدننا الآن تحكمها قوانين “تتحكم” في حركة العمران بصورة مركزية متجبرة ومتعدية على الحريات في كثير من الأحيان فما معنى أن يجبرك قانون البناء على ترك مسافات ردود محددة بينك وبين جارك حتى وإن لم يكن ببيتك أي فتحات تطل على الجار ولديك فناء داخلي مثلاً وما معنى أن يتم اجبارك على ارتفاع محدد لكل دور أو أن تجبر على نمط محدد للتعبير البصري بألوان وتفاصيل محددة وكأن التنميط والقولبة هي الملاذ الآمن للبعد عن “العشوائية” والحقيقة أنها هي بداية الطريق لإنتاج وتعميم “القبح”.
وقد يجادلني أحدهم قائلاً: ولكن هناك توجهات حديثة في التخطيط العمراني تهدف إلى “أنسنة” المدن أي بتحويلها إلى مدن أكثر ملائمة للناس وتلبية لاحتياجاتهم النفسية، وهنا أقول له :
أن تلك المحاولات إن لم تقر بخطيئة مبدأ التصميم الفوقي والفجائي “بالجملة” وتقرير مصير مئات الألوف بل وأحايانا الملايين من البشر ولعقود طويلة بقرارات يتم اتخاذها في استوديوهات تصميم منفصلة عن الواقع في مدى زمني قصير، وإن لم تقترن أيضاً بتغيير عقيدة قوانين التصميم والتخطيط العمراني وتحويلها من قوانين “متحكمة” إلى قوانين “منظمة” مع تمكين الجماعات المحلية من المشاركة الفعالة في صياغة بيئاتهم المحيطة سواء بالمشاركة في صنع القرار أو حتى المشاركة المباشرة بالتعمير مع اعطائهم الحرية لتشكيل تلك البيئات بالكيفية التي تتناسب وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية وبعد أن يتم تمكينهم أيضاً من تقنيات بنائية متوافقة تعتمد على مواد بناء محلية، إن لم يحدث هذا فلنسمي هذه الشعارات المرفوعة “للأنسنة” بأنها مجرد مساحيق ملونة يراد بها تجميل الصورة القبيحة أصلاً.
نحن المهنيون أصحاب الياقات البيضاء والديباجات الرنانة التي نرطن بها أمام بعضنا البعض في قاعات المؤتمرات ذات الخمس نجوم ارتكبنا خطيئة حينما انفصلنا عن واقع مجتمعاتنا وسخرنا معارفنا “النظرية في غالبية الأحيان” لخدمة شريحة النصف في المائة ولم نضيف لعمراننا وعمارتنا أي شيء ذو قيمة حقيقية في مقابل هذا الإرث العظيم والضخم الذي تركه لنا أجدادنا الذين عمروا الأرض بدون تلك “الديباجات” وأطنان الأبحاث والرسائل العلمية والألقاب التي تسبق أسمائنا وبعدما ارتكبنا تلك الخطايا بدأ البعض منا يبحث عن ما يصلح به هذا “الإثم” ولكن مرة أخرى بأسلوب “مساحيق التجميل” فبتنا نسمع مصطلحات رنانة “جوفاء” كالمدن المستدامة ، والمدن الذكية ، والمدن المرنة ، ومدن الجيل الخامس !!!!!! إلخ وجميعها عناوين لم تنفذ لصلب الإشكالية الأساسية وهي غياب “الناس” ومشاركتهم الفعالة والتصميم لهم وبهم.
أرجو أن لا يحدثني أحد عن التكلفة الاقتصادية بتاتاً فمنذ قرن من الزمان تقريباً كان الناس لا يواجهون أي مشكلة في تعمير مدنهم وبناء مساكنهم بأنفسهم وكانت تقنيات البناء ومواده متاحة ومعارف ومهارات البناء بسيطة ومتوفرة، وبعدما قدمنا نحن المصممون المهنيون “المحترفون” ماذا قدمنا لهم بعد أن أقنعناهم بأننا نملك العلم والمعرفة المتخصصة؟ هل استطعنا أن نوفر لهم البديل الأنسب عما كانوا يبنونه؟ هل وفرنا لهم بيئات تستوعب ملامح حياتهم الإنسانية؟؟؟
الآن وبوجود التقنيات الحديثة التي توفرت لنا من استخدام الطاقة الشمسية وأساليب معالجة النفايات السائلة أصبح بإمكاننا الاستغناء تماما عن شبكات المرافق المكلفة والتمدد على مساحات الأراضي الشاسعة التي وهبها الله لنا “مجاناً” قبل أن يكون لها سعر تحت “ذريعة ” تكاليف الخدمات والمرافق، فالأرض إن لم تمنح بالمجان لمن يريد أن يعمرها نكون قد أقررنا خطيئة المضاربة عليها فالثابت والأقوم هو أن “الأرض لمن يحيها”.وبهذه الإمكانيات يكون هناك باب واسع لإجراء مراجعة شاملة على المنهج المتبع في التخطيط “المركزي” وعلى آليات إدارة التنمية العمرانية وحجم المستقرات البشرية التي نعمرها.
أعلم أن هذه نظرة مفرطة في الرومانسية ولكن الأمر يستحق المراجعة لعلنا نستعيد إنسانيتنا المفقودة مرة أخرى.
 
محمد الرافعي، 17 ديسمبر 2020
 
 
 
 

 

 

 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة

  لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة   هذا هو الهدف الرئيس الذي تمحورت حوله رؤيتنا التصميمية للمشروع الذي صممناه حديثاً ونشارك أفكاره معكم . فالنسيج الكتلي المتضام، والفناء الداخلي، وخلق الفراغات المنحوتة في الكتلة من الداخل إلى الخارج، وتوظيف مواد البناء الطبيعية في الإنشاء، والتهوية…

هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم

  هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم   أتتذكرون طفولتكم وكم هي كانت جودة الحياة فيها؟ أتذكرون عندما كانت المباني تجسد صورة دقيقة لقسمات مجتماعتنا، وتحمل في طياتها قصصاً وأسراراً؟ عندما كانت الجدران تتحدث، والخشب يروي حكايات الزمن؟ اليوم، يبدو أن المباني فقدت روحها، وتحولت إلى مجرد هياكل خالية…

العمارة النظرية… وحب الظهور

  العمارة النظرية… وحب الظهور   وصلتني مؤخرًا دعوة للمشاركة كمتحدث رئيس في مؤتمر دولي يتناول قضايا التراث والترميم تحديدًا، فتساءلت في حيرة: من أين حصل المنظمون على معلومة أنني متخصص في الترميم؟ فهذا المجال لم أعمل به قط، ولا توجد لدي أي خبرة عملية مرتبطة به، لذا فأنا لست…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثالث

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثالث – التراث فوبيا في عالمنا الذي نعيشه الآن ونؤتمن فيه على ميراث ألاف السنين من التجارب الحياتية الحضارية التي صنعها الإنسان بوجوده على هذا الكوكب يوجد نموذجان من المعرفة لا ثالث لهما :   النموذج الأول – معرفة متوارثة نتجت عن تراكم خبرات…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثاني

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثاني – الحائط الحامل   في المقال السابق تحدثت عن أول عنصر يثير الحساسية عند الكثير من المعمارين “الحداثيين” وهو السقف القوسي وتحديدا “القبة ” بسبب نظرتهم القاصرة إليه كونه تعبير بصري ويغفلون عن حقيقته كونه نسق إنشائي بيئي في الأساس وتأتي تعبيراته البصرية…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP