…نحن والتراث – جدلية لا تنتهي
العمارة التركية الحديثة حالها لا يقل بؤساً عن حال العمارة في كثير من بلادنا العربية حيث فقدان الهوية والتنكر للإرث الحضاري واللهاث الغير واع وراء الصرعات الغربية سمة غالبة على معظم النتاج البنائي الحديث، يستثنى من ذلك عمارة المساجد التي حافظ الأتراك في إصرار شديد على بقاء مفردات التعبير البصري والأنساق الإنشائية التراثية الخاصة بها حاضرة في غالبية المساجد الحديثة التي يعمرونها.
من يقرأ المقالات التي كنت قد كتبتها ونشرتها في صفحتي منذ حوالي سنة ونصف ومن يشاهد محاضرتي التي كنت قد قدمتها السنة الماضية في مؤتمر المساجد الذي عقدته كلية العمارة بجامعة عفت بجدة حول القضايا التصميمة المعاصرة للمسجد سيدرك سريعاً موقفي الرافض للزخرف واستهجاني لاستخدام المساجد كأداة للتباهي والإسراف في عمارة المسجد على العموم وسيعلم يقيناً أنني لا أقبل في عمارة المساجد إلا ما يتفق مع شرعنا الحنيف.
على الناحية الأخرى عندما زرت هذا المسجد الكبير الذي أرفق صوره مع هذا المقال والذي أنشأته الدولة ليكون أكبر مسجد جامع ومركز ثقافي اسلامي في تركيا واختارت لموقعه أعلى تلة في إسطانبول ليشكل علامة بصرية بارزة في خط سماء المدينة.

الصحن المركزي بجامع شاملجا الكبير بمدينة اسطانبول
لقد حاولت أن اجاهد نفسي كي لا استنكر جميع ما سبق وأن أنحي شخصيتي المهنية جانباً وأحاول أن أرى البناء من منظور أي فرد عادي في المجتمع وجال بخاطري حزمة من الأسئلة التي أرجو أن تفكروا فيها معي بحيادية وتجرد تام كنوع من أنواع الرياضة الذهنية والتفكير بصوت عال أكثر منه تحديد مواقف نقدية:
– ألا يحق للمجتمع ان يتمسك بملامح خاصة تربطه بتراثه وتذكره بجذوره وعاداته وتقاليده ؟
– ألا يشكل الطعام التراثي والملبس التراثي نوع من أنواع تعبير الجماعات المحلية عن هويتها؟ ألا تهفو قلوبنا لتذوق الأول وارتداء الثاني من آن لآخر؟ حتى أننا في بلاد الغربة إذا ما أراد أحدنا أن يكرم ضيفه نجدنا وقد دعوناه لمأدبة طعام تحوي على أطعمة تراثية من بلدنا الأم ونحرص على إعدادها بنفس الطريقة التي تعلمناها من أجدادنا؟
– ألم يشاهد العالم أجمع كيف زخرت جنازة الملكة اليزابيث الثانية في سبتمبر الماضي بكم مهول من البرتوكولات التقليدية التراثية التي أظهرت للعالم أجمع مدى حرص هذه الدولة على ميراثها التليد وتقاليدها العريقة الممتدة إلى زمن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس منذ عدة قرون مضت؟!!!!! والمدهش أن كثير منها تنطوي على عناصر بصرية في الأساس كالزي الذي يرتديه الجنود ، العربة التي تحمل الجثمان وتجرها الخيول ؟ التاج والصولجان؟ باقات الزهور وألوانها وتنسيقها والكثير من التفاصيل الدقيقة التي عبرت قرون من الماضي ولا تزال حاضرة بقوة في ثقافة هذه الدولة الأوروبية الحديثة!!!
– هل يمكن لأحد عاقل أن يلوم فتاة يا يابانية على ارتدائها للكيمونو ؟ أو أن يلوم رجل اسكتلندي على ارتداؤه للتنورة الاسكتلندية؟ أو أن يستهجن رؤية رجل سعودي يرتدي الدشداشة والشماغ والعقال؟ ألا تعبر جميعها عن حاجة داخل وجدان الإنسان للشعور بالانتماء لمجتمع بعينه ولحضارة بعينها؟
– هل العمارة استثناء من ذلك ؟ هل ينطبق عليها ذلك كلياً؟ نسبياً؟ اطلاقاً؟
لأي مدى وكيف يمكن الموازنة بين اشباع الحاجة لهذا الانتماء وبين معايشة الحاضر بأدواته بعيدا عن النوستالجيا ؟ إجابة هذا السؤال تحتاج لنقاش عميق وطويل وواعي حيث اعتبره نقاش مفتوح النهاية لأنه سيكون دوما متجدداً جيل من بعد جيل فحاضر اليوم قد يصبح تراث غد إذا ما كان ذا قيمة تستحق الحفاظ.
محمد الرافعي ، 23 نوفمبر 2022