البودكاست المعماري والجمهور المنسي
تواصَلَتْ معي مُنذُ عدة أيام إحدى المعمارياتُ حديثةُ التخرج، كي تَستنيرَ برأيِي حول مشروعِ “بودكاست” تُخططُ لتدشينِه عن التصميم بصفة عامة والعمارة بصفة خاصة. فخصصْتُ لها من وقتي قرابةَ الساعة في اجتماعٍ عبر منصة “زوم” كي أمنَحَها الفرصةَ لِشرحِ رؤيتِها حول الموضوع، وفي مَعْرِضِ حديثِنا، شرَدْتُ بذهني قليلاً لأُفكرَ في جدوَى الأمر! فأنا قد شاهَدْتُ العشراتِ ممَن يَتحدثونَ على اليوتيوب في نفس الموضوعات، وجميعُهم يُحاولُ أن يَجتذبَ أكبرَ قدرٍ ممكنٍ من المتابعين، والبعضُ منهم يعملُ بصورة احترافية ويُخصصُ جزءاً كبيراً من وقتِه وجهدِه كي يَصلَ إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من المشاهدين، ولكنْ في تقديري، هناك مشكلةٌ جوهريةٌ لا يُدركُها الكثيرُ منهم، إن لم يكن مُعظمُهم، ألا وهي أنَّ الجميعَ يُوجهُ خطابَهُ لنفسِ “الجمهور” فالجميعُ يَتحدثُ إلى المعماريين أو طلبةِ العمارة، وهذا أمرٌ جيدٌ وجهدٌ محمودٌ ولا بأسَ به، إذْ إنه يُعَوِّضُ ما لا تستطيعُ كلياتُ ومدارسُ العمارةِ تقديمَهُ لطلبتها، ولكني تَنبَّهْتُ إلى ما كنتُ قد عرضتُه في مقالي الذي حمَلَ عنوانَ “نزيف الفكر المعماري”، والذي وضَّحْتُ فيه أننا – كمعماريين – أشبهُ بمجموعةٍ من الأشخاص يَجلسونَ داخل قاعةٍ مغلقةٍ يَنفصلونَ فيها عن جمهورِهم الحقيقي الذي يتحكمُ فعلياً في الواقع خارجَ تلك القاعة.
نحن في مؤتمراتِنا، وبرامجِ البودكاست التي نُنتجُها، ومهرجاناتِنا التي نُقيمُها، وجوائزِنا التي نَمنحُها، وأيِّ فاعليةٍ خاصةٍ بنا، نُحدِّثُ بعضَنا، ونُكَرِّمُ بعضَنا، ونُجاملُ بعضَنا، ونَتجادلُ مع بعضِنا، بل وقد نُهاجمُ بعضَنا أيضاً، وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإنَّ لسانَ حالِ واقعِنا يَشي بأنَّ عمارتَنا المعاصرةَ تمرُّ بمحنةٍ صعبة، إذْ لا ترقى نهائياً لأن تُصبحَ تراثاً ذا قيمة إن تركناها بحالِها هذه لأبنائِنا وأحفادِنا في المستقبل! والمُلاحظُ أنه حتى الآن لم يُفكرْ أحدٌ بجديةٍ في أنَّ مواجهةَ هذه الإشكاليةِ لا ينبغي أن تكونَ أحاديةَ المِحور، ولا ترتبطَ فقط برفعِ مستوى الوعي عندنا كمعماريين أو كطلبةِ عمارة، بل إنَّ هناك فئةً مَنسيَّةً تماماً في كلِّ هذا الخِضَمِّ وأهمَلْناها جميعاً، على الرغم من أنها هي الأكثرُ تأثيراً على النتاج البنائي لأنها صاحبةُ القرارِ الفَصلِ فيه، ألا وهي: “أصحابُ المشروعات” وجمهورُ المُستخدمين.
المتأملُ لحالِ مجتمعاتِنا العربيةِ يمكنُه أن يَلحظَ بسهولةٍ غِيابَ ثقافة “العمارة” بصورةٍ شديدةٍ بين العامة، حتى أنَّ السوادَ الأعظمَ من أهلِنا لا يكادونَ يُدركونَ ماذا تعني تحديداً كلمةُ “عمارة”؟ وما الفارقُ بينها وبين “البناء”؟ ولا يَستطيعونَ التمييزَ بسهولةٍ بين “المعماري” و “الإنشائي”؟ والغالبيةُ منهم يَدمجونَ الاثنَينِ في وصفٍ واحدٍ وهو: “مهندسُ مباني”!!! فمجتمعاتُنا – مع الأسف – تَفتقرُ للثقافةِ المُرتبطةِ بالبناء، والوعي بالدورِ الحقيقي الذي يمكنُ أن تَلعبَه العمارةُ الصادقةُ في ميادينَ مختلفةٍ مثل: الاقتصادِ والبيئةِ والاجتماعِ والصحة… إلخ. والحقيقةُ أننا نتحملُ قِسماً كبيراً من المسؤولية عن غِيابِ تلك الثقافة، إذْ إنها كانت من البديهياتِ التي يَعلَمُها الجميعُ قبلَ أن نَستأثرَ بها لأنفسِنا ونفصِلَها عن الناس وعن الممارسةِ الشعبية.
لقد فَصَلْنا الناسَ عن العمارة لعقودٍ طويلة، وجعلناهم مُجردَ “مُستخدمين” لما نُصممُه، ولم نَمنحْهم أيَّةَ مساحةٍ للمشاركةِ فيه، وحصرْنا أفكارَنا فيما بيننا، وصنَعْنا لأنفسِنا وَسَطاً نُخبوياً بعيداً عنهم، فاندثرَتْ معرفتُهم وثقافتُهم حولَ العمارة، وأصبحَ لديهم “أُمِّيَّةٌ” شديدةٌ في كلِّ ما يرتبطُ بها، مما جعلَهم لا يُميِّزونَ بين الغَثِّ والثمين، وتَشوَّهَتْ معاييرُهم المُرتبطةُ بالجودة، وأصبحْنا نحن الآن في ورطةِ جَني الحصادِ المُرِّ لهذا التشوه.
لقد لمستُ مظاهرَ هذه الإشكاليةِ من مواقفَ كثيرةٍ جمعتْني مع بعضِ أصحابِ المشروعات، إذْ أشعرُ أحياناً وكأنني أتحدثُ بلغةٍ غيرِ مفهومةٍ منهم حينما كنتُ أحاولُ أن أشرحَ أفكاري التصميمية، ووجدتُ أنني من المُحتَّمِ عليَّ أن أُراجعَ المُرادفاتِ التي أستخدمُها، والنهجَ الذي أتَّبعُه كي تَصلَ أفكاري إليهم، وفي تقديري، هم مَعذورونَ؛ لأننا لم نَبذلْ أيَّ مجهودٍ حقيقي لتثقيفِهم حولَ مهنتِنا وما نقومُ به، وكأننا كالكهَنةِ الذين يَحفظونَ أسرارَ ما يَصنعونَ كي لا يَختلطوا بالعامة، ونتيجةُ ذلك، نرى أنَّ الكثيرَ من أصحابِ المشروعاتِ يَقبلُ بتصاميمَ أقلُّ ما يمكننا وصفُه حيالَها أنها “تِجارية”! لأنَّ الأمرُ بالنسبة لهم هو مُجردُ إنتاجِ “بناء“، فنحن كيف ننتظرُ منهم استجابةً لما نطرحُه من أفكارٍ فلسفيةٍ من قبيلِ “الاستدامة” أو “الهوية” أو “العمارةِ الصادقةِ” إلخ ، وهم يجهلونَها تماماً ويجهلونَ مقاصدَها وانعكاسَها على حياتِهم اليوميةِ وواقعِهم المعاشِ؟!!
المُلفتُ للنظرِ أنَّ هناك مِهَناً أخرى قد استطاعتْ أن تَتفادى هذه الإشكاليةَ بذكاءٍ شديد، وحافظتْ على مستوى جيدٍ من توعيةِ الجمهور ورفعِ ثقافتِهم حولَها، مما أسفرَ عن تَبني العامةِ لمعاييرِ جودةٍ مُعتَبَرةٍ بخصوصِ تلك المِهَن. فالغالبيةُ في مجتمعاتِنا نراها تَستطيعُ أن تتعرفَ على “جودة” تصميمِ الملابسِ المُناسبةِ مثلاً، وتَستطيعُ أن تَحكمَ على جودةِ النكهاتِ الخاصةِ بالطهو وتَتعرفَ على المطابخِ المختلفةِ وصناعةِ الطعام، ولديها ثقافةٌ مقبولةٌ حيالَ الطبِّ والأساليبِ العلاجية، وتُتابعُ بشَغَفٍ ما يَصدُرُ عن صناعةِ المُحتوَى المرئي من سينما وإعلام. وهكذا النماذجُ كثيرةٌ ولا مجالَ لحصرِها.
إذاً، لماذا تظلُّ العمارةُ خارجَ مجالِ الثقافةِ العامة؟ ولماذا لا يوجدُ جهدٌ حقيقي لتثقيفِ مجتمعاتِنا حولَ العمارة؟ لماذا تَقتصرُ قائمةُ ضيوفِ البودكاست على المعماريينَ المُميزينَ وحسب؟ لماذا لا ندعو معهم أصحابَ المشروعات الذين آمنوا بالأفكارِ التي وضعَها هؤلاءِ المصممون وتبنَّوها ودعَمُوها حتى أصبحتْ حقيقةً وواقعاً مُعاشاً؟ لماذا لا نُكرمُهم ونُحاورُهم ونَستمعُ إلى أفكارِهم ونُناقشُها، ونُقدمُ النماذجَ الرائعةَ منهم للجمهور؟ لماذا لا ننشرُ قصصاً مُلهِمةً للمُستثمِرينَ وأصحابِ المشروعاتِ الذينَ فَضَّلُوا التَّصامِيمَ التي تحملُ قيمةً وعمارةً صادقةً عن تلكَ “التجارية”؟
لماذا لا نضعُ خُططاً لبرامجِ “بودكاست” ذاتِ محتوًى مدروسٍ جيداً ومُوَجَّهٍ بالكاملِ لنشرِ الثقافةِ المعماريةِ وتبسيطِ مفاهيمِها للعامة، على أن تَشملَ جميعَ فئاتِهم، وتُخاطِبَ كلَّ فئةٍ منهم بما يُناسبُها من لغةٍ بسيطةٍ وسهلةٍ تحملُ الأفكارَ الجيدة، وتُقدمَها لهم بصورةٍ جذابةٍ وشَيقةٍ غيرِ مُملة؟ فعلى سبيل المثال، إن أردنا أن نَرفعَ وعيَ الجمهورِ حولَ أهميةِ “الفِناءِ الداخلي” في المساكنِ الخاصة، فيمكننا أن نُقدمَه كفكرةٍ عن طريقِ وصفِه للفئاتِ المختلفةِ من الجمهورِ كالتالي:
- رباتُ البيوت:
نُقدمُه لهنَّ كونَه حديقةً خاصةً غيرَ مَجروحةٍ من الجيران، تستطيعُ أن تَجلسَ فيها الزوجةُ بحريةٍ كاملةٍ دونَ أن يَراها أحد، وهي مُحاطةٌ بغُرفِ المنزلِ التي تُطلُّ عليها، وبالتالي يمكنُ لأطفالِها أن يَلعبوا فيها بأمانٍ تام، إذْ إنها تُوَفِّرُ لهم المُتنَفَّسَ الخالي من القيودِ الصارمةِ التي قد تُقَيِّدُ حريتَهم حينَ رغبتِهم في اللعب في الغُرفِ الداخليةِ للمنزل، وتَستوعبُ الفوضى والصراخَ الذي يَنجُمُ عن هذا اللعب، ويمكنُها أيضاً أن تَستوعبَ جلساتِ الصديقاتِ والأقاربِ من النساء في اللقاءاتِ العائلية.
- الرجال:
نُقدمُه لهم كونَه حديقةً يُستفادُ من كلِّ قرشٍ يتمُّ إنفاقُه عليها، إذْ إنها بمثابةِ فراغٍ جديدٍ يُضافُ إلى فراغاتِ المسكن ولكنه بدونِ سقف، ولديه القدرةُ على استيعابِ أنشطةٍ متعددةٍ يَستفيدُ منها جميعُ أفرادِ الأسرة. وبفضلِ تلك الحديقة، يمكنُ لصاحبِ المسكنِ أن يَستفيدَ بكلِّ شبرٍ من الأرض، إذْ يمكنُه بهذا الشكلِ أن يكونَ مسكنُه مُلتصِقاً بجارِه، وبالتالي يَستطيعُ أن يُوَفِّرَ في تكاليفِ التشطيباتِ للواجهاتِ الخارجيةِ الثلاث.
- صانعُو القرارِ السياسي:
نُقدمُ المساكنَ ذاتَ الأفنيةِ الداخليةِ كنظامِ بناءٍ يُوَفِّرُ في استهلاكِ الطاقةِ الكهربائية، ويُحققُ أعلى استغلالٍ ممكنٍ لمُسطحاتِ الأراضي، وبالتالي التوفيرَ في تكاليفِ شبكاتِ البنيةِ الأساسية. وهو البديلُ صاحبُ أفضلِ بيئةٍ صحيةٍ للسكن، مما يُوَفِّرُ في تكاليفِ الرعايةِ الطبية، ويُحققُ أداءً جيداً في مواجهةِ الكوارثِ الطبيعيةِ كالزلازلِ والعواصفِ التُرابية.
إن لاحظتُم، أنا في هذا المثالِ البسيطِ حرصْتُ على عدمِ استخدامِ أيَّةِ مُفرداتٍ مِهنيةٍ من التي نَتداولُها بيننا، فلم أستخدمْ كلمةَ “فِناء”، أو “نسيج مُتضام” أو “استدامة” أو “فراغات” واستبدلتُها بـ “حديقة” و “مسكن مُلتصق بالجار” و “توفير كهرباء” و “غُرف” وأيضاً حاولتُ أن أُخصصَ المحتوى ليُخاطبَ كلَّ فئةٍ وفقَ اهتماماتِها لضمانِ تحقيقِ جاذبيةٍ للفكرةِ لديها.
أتصوَّرُ أننا لو اتبعْنا هذا النهجَ، واستطعْنا أن نَصوغَ هذا المحتوى في صورةِ مادةٍ مرئيةٍ مُشَوِّقةٍ ومُمتعة، سوف نَخلُقُ تياراً مُجتمعياً يَعلَمُ كيف يَتذوقُ العمارةَ وفنونَها ومعانيَها، وبالتأكيدِ سوف يَنعكسُ هذا على ما سَيرضى به ويَطلبُه، وهو بيتُ القَصيد، فحينها قد يُفسَحُ المجالُ للتصميماتِ الحقيقيةِ والجادة، وقد نَشهدُ تصاميمَ متميزةً لعمارةٍ صادقةٍ تَحظى بدعمٍ وترحيبٍ من المجتمع، ويَسعى إليها أصحابُ المشروعاتِ ليَقينِهم بأنها هي “الجوهرة” المطلوبة.
محمد الرافعي، 2 ديسمبر 2025
