…الدكان والمعماري التاجر
لقد حدثتكم مرارا عن كون البعض ينظر للعمارة باعتبارها سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب ولهذا يتعاملون معها بما يحقق مجرد الوظيفة الظاهرة بأقل تكاليف ممكنة ويتم الترويج فيها لنماذج شكلية مفرغة من المضمون في “موضات” متعاقبة مثلها مثل أي سلعة تجارية.
لقد صادفني أمس موقف طريف جدا أكد لي وجهة نظري هذه حينما أرسل لي أحد الأشخاص عبر منصة تويتر ليسألني مباشرة سؤال أحسست وكأنه نزل علي كالصاعقة.
لقد بدأ الرجل حديثه هكذا: عندكم تصاميم معمارية؟
فجلست أفكر لبرهة عن مغزى سؤاله هذا ، فالرجل يعلم جيدا أن الحساب ليس شخصي وأنه لمكتب هندسي فماذا يتوقع مني أن أجيبه مثلا؟ هل يتوقع أن أقول له : نعم عندنا تصاميم طازجة خرجت توا من الفرن ؟ أم أجيبه بأننا لدينا أثنان “استعمال طبيب” في المخزن مثلا؟
لم يترك لي الرجل فرصة لأفيق من دهشتي من سؤاله الأول وفورا بادرني برسالة رفعت من مستوى الصدمة أكثر وكأن السؤال الأول لم يحقق المطلوب من ادهاشي فقال لي:
” أبغى تصميم معماري لدور أرضي ودور أول” …….وهنا قفز خيالي ليستكمل عبارته بجملة ” ويكون أحدهم بالسلطة والآخر بالطحينة فقط”!!!!!!!!!!!
لقد استجمعت ما تبقى لدي من تماسك ذهني وصبر ورددت عليه بهدوء بأننا مكتب استشاري لا يقوم بعمل تصاميم تجارية وأننا نبحث عن القيمة بأكثر مما نبحث عن الربح ……..وهكذا ظنا مني أنه سوف يتفهم وجهة نظري ويتوقف عند هذا الحد. إلا أنه على ما يبدوا فأن الرجل أصر إلا أن يختبر مقدار صبري وسعة صدري فطرح سؤال يؤكد ما يدور في واقعنا المعماري البائس ويكشف عن نظرة شريحة واسعة من العملاء للعمارة ودور المعماري فقال لي:
” ممكن تعطيني فكرة عن الأسعار؟”
كدت أن أفقد صبري لوهلة ولكني تذكرت حادثة سابقة كانت قد حدثت لي من شهرين ماضيين حينما أرسل لي أحد العملاء “قائمة أسعار” قد أعدها وأرسلها له أحد المكاتب الاستشارية وسألني عن رأيي المهني فيها !!!!!!!!!
لقد التمست بعض العذر للرجل الذي حادثني أمس فما دام هناك من المعماريين من ارتضى لنفسه أن يقدم خدماته مثل “البقال” أو بائع الخضروات وحدد لنفسه قائمة بأسعار التصاميم التي يقوم بها فلا لوم نهائيا يمكنا أن نوجهه إلى مثل هؤلاء العملاء وأصحاب المشروعات فقد انتشر بينهم ثقافة “التجارة” في تعاملهم مع المعماريين ويتحمل هؤلاء “المتاجرين” من المعماريين الوزر والذنب كونهم هم من ساهموا بسلوكهم الشاذ هذا في ترسيخ هذه الصورة الذهنية.
أنا أتحفظ بشدة على وضع أي نوع من أنواع التسعير الموحد على الإطلاق للتصاميم المعمارية لأن ببساطة شديدة أي “توحيد” يؤدي من وجهة نظري الشخصية في الأغلب إلى “تنميط” فالعمارة تستمد ثرائها من التنوع والتنوع مرتبط بمتغيرات كثيرة جدا وهذه المتغيرات اذا ما تعامل معها معماري مبدع سينتج بناء متفرد أما التنميط ستكون نتيجته الحتمية هي قتل الإبداع والجنوح إلى عدم المجازفة بأي خسارة مادية وبالتالي سيكون “بذل القليل” هو الخيار الأنسب لأن الفكر المسيطر في هذه الحالة هو فكر تجاري يريد أن يكسب من كل عملية تصميم على حدى وهذا تماما فكر البقال الذي يضع تسعيرة لكل سلعة ويتمسك بهامش الربح الموضوع لها ويحدد مكسبه الكلي بناء على مقدار ما يبيع في الشهر او السنة ولكن هل معنى ذلك أنني أطالب المعماري بأن يتخلى عن أرباحه ولا يكسب شيئا : بالطبع لا ، ولكن أطلب منه أن ينظر للممارسة بأسلوب عالم الأعمال في الشركات فلا يجب أن تكون جميع المشروعات مربحة فلا بأس من أن يكون البعض منها يغطي فقط التكاليف في مقابل أن البعض الآخر يحقق مكاسب كبيرة تعوض ما سبق وهذا النموذج من الممارسة فيه نوع من الجدية والتحدي والحرص على الإتقان ووضع التميز هدف يسعى إليه ولا يقيس ما تحقق بالكم ولكنه يهتم بالكيف.

أحد المكاتب وقد وضع قائمة بأسعار “منتجاته” التصميمية !!!!!!
لا أدري لماذا لا تدرس كليات العمارة مادة تعنى بأخلاقيات الممارسة المهنية لتغرس في الطلبة من شباب المعماريين منظومة من القيم الأساسية التي يجب أن يتم الحفاظ عليها ولتصقل وعيهم بما يحق لهم من حقوق وحدود وما يجب عليهم من واجبات. وفي ذات الوقت تعلمهم كيف يمكنهم التعامل اللائق مع العملاء والمشروعات وكيف يحتسبون أتعابهم المهنية ويكسبونها بشرف ويحافظون على كبرياء واصالة هذه المهنة العريقة.
لقد فرطت جامعاتنا وكلياتنا كثيرا في هذا الأمر وتهاونت النقابات المهنية في ضبط الممارسات والنتيجة واضحة وجلية ولا تخفى على أحد حيث باتت مدننا العربية مزدحمة بفوضى بنائية تنتجها هذه “الدكاكين” المعمارية التي لا يتقى الله أصحابها ويلا يهتمون إلا لمجرد التربح عن طريق الكم ضاربين بكل القيم عرض الحائط غير عابئين بكون هذه المسوخ التي يبنونها ستمكث جاثمة على ذائقة مجتمعاتهم لسنين طويلة فتزيد من الفجوة بيننا وبين حقيقتنا وماضينا وحضارتنا.
محمد الرافعي 6 يونيو 2022