العمارة النظرية… وحب الظهور
وصلتني مؤخرًا دعوة للمشاركة كمتحدث رئيس في مؤتمر دولي يتناول قضايا التراث والترميم تحديدًا، فتساءلت في حيرة: من أين حصل المنظمون على معلومة أنني متخصص في الترميم؟ فهذا المجال لم أعمل به قط، ولا توجد لدي أي خبرة عملية مرتبطة به، لذا فأنا لست الشخص المناسب لتلك الدعوة الكريمة، رغم كل المميزات العينية والمادية التي سأحصل عليها في حال قبولي للمشاركة، من سفر بتذاكر طيران على الدرجة الأولى وإقامة في فندق سبعة نجوم، وتحيطني الكاميرات والصور والأضواء، وأنعم بمأدبات الطعام الفاخر ولقاءات التعارف مع الشخصيات المؤثرة هنا وهناك… فهل أقبل؟
بالتأكيد لا. لقد أرسلت إجابتي للمنظمين في خطاب شكرتهم فيه على دعوتي واعتذرت بلباقة عن عدم القبول، موضحًا لهم أن أجندة المؤتمر ومجالاته بعيدة عن تخصصي وخبراتي العملية والعلمية، لأنني أحرص دائمًا على أن تكون مشاركاتي ذات قيمة حقيقية مؤثرة، وليست مجرد تحصيل حاصل.
تكرر الأمر معي في العام الماضي، ولكن هذه المرة كان الحدث وثيق الصلة بخبراتي وتخصصي وممارساتي المهنية في البناء بالتربة، إذ دعيت للمشاركة كمتحدث رئيس في فعالية كبيرة تهتم بالبناء بالتربة الطينية، ودعيت لاجتماع تنسيقي مع المنظمين للاتفاق على كافة التفاصيل، وفي نهايته فوجئت بتصنيفي – مرة أخرى – كمتحدث تحت عنوان “ترميم المباني الترابية”!!! فلفتت نظرهم إلى أنني غير متخصص نهائيًا في الترميم، وأنه رغم تعاملي مع التربة الطينية لزمن طويل، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن أكون متخصصًا في هذا المجال المستقل، والذي له خبراءه ومختصوه، ففوجئت بردهم بأن البرنامج الزمني قد ثبت، وقد يصعب تعديله أو الإضافة إليه، لذا يقترحون أن أبدأ حديثي بالترميم ثم أعرج بعده إلى ما أتخصص فيه وأمارسه، فاعتذرت عن القيام بذلك حفاظًا على مهنيتي واحترامي لذاتي.
بات الموضوع يتكرر كثيرًا حتى شعرت بأن معظم تلك الفعاليات أو المؤتمرات مجرد مناسبات شكلية، وليست أنشطة علمية تساهم في تبادل الخبرات ونشر المعرفة، وأن اهتمام المنظمين ينصب غالبًا على الأسماء المشاركة، ويولي لذلك أهمية كبيرة على حساب قيمة ما تقدمه تلك الأسماء من مساهمات حقيقية في جودة المحتوى.
الأمر جد خطير، حتى أنني تلقيت في إحدى المرات دعوة للمشاركة في مؤتمر دولي تنظمه وتديره إحدى الجامعات المعروفة في بلادنا، وجاءتني الدعوة عن طريق أستاذ ورئيس قسم العمارة في تلك الجامعة، إذ أخبرني بأنني سأكون إضافة مميزة لهذا المؤتمر، فلما سألته عن العنوان والمواضيع التي تتناولها الأجندة؟ فوجئت بأنها بعيدة كل البعد عن ممارستي المهنية! فأوضحت له أنه قد يكون هناك من هو أحق مني بهذه الفرصة، ففاجأني بإجابة لم أتوقعها قط، حين قال لي: “أي مشاركة منك بالتأكيد ستكون أقيم من الكثيرين، حتى لو قلت (ريان يا فجل) ستكون مقولة لها معنى لأنها خرجت منك”، فشكرته كثيرًا على ثقته الكبيرة بي، واعتذرت عن حضور المؤتمر لإيماني بأن المشاركة بمحاضرة خارج إطاري هي إهدار للطاقة لا يليق بي أو بهذا الحدث العلمي.
أعلم يقينًا أن هناك موضوعات معمارية أو عمرانية كثيرة قد تقبل المشاركات المبنية على البحث النظري، فلا يستطيع أحد أن يغفل عن الموجات التي تتصدر الكثير من المؤتمرات والندوات، وتحمل في طيات عناوينها وموضوعاتها عبارات شهيرة رنانة تظهر كثيرًا في أوقات معينة، ثم لا تلبث أن تتلاشى ليظهر غيرها ويتصدر العناوين كالموضة تمامًا، فكم من مؤتمر أو ندوة دار حول عبارات “الاستدامة Sustainability” ثم “المرونة الحضرية Resilience” ثم “الأنسنة Humanization”! وهكذا، إلا أن المؤسف حقًا هو استهلاك البعض لتلك العبارات بصورة غير صحيحة، والاستخفاف في تناولها وتفريغها من مضمونها بعد إلحاقها بأي محتوى سطحي يقدمونه! ولم لا، فكثير من المؤتمرات والندوات أصبحت مجرد “بزنس” كمشاريع تجارية لا تهدف إلا للربح في مقابل “الظهور” والتلميع للشخصيات المشاركة على حساب الفائدة والمحتوى والمضمون المقدم.
كل ذلك جعلني أسأل بصوت مرتفع: هل يمكن للعمارة أن تمارس كمهنة نظرية؟
جال هذا السؤال بخاطري كثيرًا أثناء مشاركتي في مناسبات معمارية عدة ذات أجندات تطبيقية أو مرتبطة بقضايا متخصصة، وملاحظتي المتكررة بوجود كم ليس بالقليل من المشاركات والعروض التي تقدم وترتكز معظمها على خبرات نظرية بحتة لا تستند إلى أية ممارسة فعلية على أرض الواقع!!! حتى أن البعض من أصحاب تلك المشاركات “النظرية” يكونون بعيدين كل البعد عن موضوعات تلك المؤتمرات أو الفعاليات المشاركين بها، وتاريخهم وتخصصاتهم وخبراتهم لا يوجد بها ما يتعلق بالموضوعات المطروحة! فتجد على سبيل المثال من يتحدث عن استخدام التربة في البناء وهو لم تلمس يداه أي تربة طينية على الإطلاق، وغاية علاقته بها قد تكون محصورة في رؤيته لها في الحدائق حيث تزرع النباتات، وآخرين يتحدثون عن تصاميم المساجد وهم لم يصمموا مسجدًا طيلة حياتهم، ولكنهم يتصدرون لقضاياها التصميمية بجرأة شديدة تدهشني حقًا، الأمر الذي أتعجب منه ولا أجد له مبررًا منطقيًا في نظري سوى أنه محض إرضاء لشهوة “حب الظهور” لا أكثر.
لا أعلم إلى متى سيدوم هذا الهزل، ولكني أعلم يقينًا أن هناك من يحاول تصحيحه وإيقافه.
محمد الرافعي، 28 فبرياير 2025