القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا
المقال الثاني – الحائط الحامل
في المقال السابق تحدثت عن أول عنصر يثير الحساسية عند الكثير من المعمارين “الحداثيين” وهو السقف القوسي وتحديدا “القبة ” بسبب نظرتهم القاصرة إليه كونه تعبير بصري ويغفلون عن حقيقته كونه نسق إنشائي بيئي في الأساس وتأتي تعبيراته البصرية كنتيجة طبيعية لطريقة استجابته لنقل الأحمال.
اليوم في هذا المقال سوف أتحدث عن نسق إنشائي آخر ولكن على العكس مما يحدث مع القبة فأن كثيرون لا يدركون من هذا النسق سوى الوظيفة الإنشائية له فقط !!!!!!! ألا وهو “الحائط الحامل”
في تقديري الشخصي أن هذا النسق يعتبر أحد الكنوز المعرفية التراثية التي طورها الإنسان في العالم على وجه العموم وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص عبر قرون طويلة من خلال التجربة والخطأ والإنتخاب الطبيعي حتى وصلنا بشكله الحالي في مبانينا التراثية التي ننبهر جميعا بصمودها وتحديها لكافة النوازل والظروف التي مرت بها في رحلتها الطويلة عبر الزمان!! وما يثير أسفي أنه مع اختفاء هذا النسق في مبانينا الحديثة في بلادنا إلا أنه لا يزال يستخدم في الكثير من الدول الغربية في إنشاء المباني المعاصره ولا سيما السكنية منها وأضع لكم بعض الصور التي قمت بتصويرها الشهر الماضي لأحد المبان الحديثة التي يتم إنشائها في أحد أحياء اسطانبول ويستخدم فيها الحوائط الحاملة المبنية بالطوب الأحمر مع أسقف خشبية.


مبنى حديث يتم بناؤه بالحوائط الحاملة في سط مدينة اسطانبول – 2023
والعجيب حقا والمثير للاستغراب أننا بدلا من تناول هذا النسق بالبحث والتحليل لاستخلاص الدروس المستفادة من المحصلة المعرفية المتراكمة بداخله قررنا تنحيته جانباً والاستغناء عنه تماماً بدعوى أنه لا يصلح للوقت الحالي!!!!؟؟ وواقع الحال أن كثيرون من المعماريين يغفلون عن الأبعاد والوظائف الأخرى التي يلعبها هذا النسق والتي سوف اسردها لكم كالتالي:
– إجتماعي
قد يتسائل البعض ما علاقة الحائط الحامل بالأبعاد الإجتماعية وهل يمكن أن يكون مؤثرا في حياة الناس؟
الإجابة نعم على مستويين مباشر وغير مباشر….
على المستوى المباشر فأن عملية البناء قديماً كان يتجلى بها أحد أبرز صور التعاون بين أفراد المجتمع حيث كانت تعتبر مشاركة أصحاب المسكن في بناء مسكنهم واجب اجتماعي ويتم عن طريق معاونتهم في إقامة الجدران حيث أنها لا تتطلب مهارات حرفية عالية وكانت تعتبر هذه المشاركة نوع من أنواع التأكيد على الصلات الإجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد والعائلة الواحدة وقد تحدث استاذنا الراحل الدكتور عبد الحليم إبراهيم كثيرا عن هذه النوع من التفاعل الاجتماعي بين الأفراد حينما رصد ما أسماه “احتفاليات البناء” في المجتمعات التقليدية. وهذا النسق الاجتماعي لا يزال قائم بدول عدة في امريكا اللاتينية والهند والصين وبعض دول شرق آسيا وأزعم أنه أيضا متواجد إلى حد ما في الريف في صعيد مصر وبعض مناطق الإسكان الغير رسمي حول أطراف المدن حيث تبنى المساكن بالحوائط الحاملة وتستخدم الخرسانة المسلحة لبلاطات الأسقف فقط.
أما بخصوص التأثير الغير مباشر فهو أمر مرتبط بمشكلة أجتماعية نلمسها جميعا في بيوتنا “المعاصرة” التي نعيش فيها ألا وهي فقدان الخصوصية السمعية……!!!!!! والتي ينطبق عليها المثل الشعبي الشهير (الحيطان لها ودان )، فعلى الرغم من أن مدننا التقليدية كانت تبنى بنسيج متضام تتلاصق في خلاله المساكن وتتشارك الجدران فيما بينها إلا أن تلك الجدران السميكة كانت توفر عزل صوتي ممتاز وحالة تامة من الخصوصية السمعية لأصحاب المساكن على العكس مما نعيشه نحن الآن في شققنا الحديثة والتي تنتقل الأصوات بين جدرانها الرفيعة بكل حرية حتى أن الجيران أصبحوا يخجلون من بعضهم البعض حينما اصبحت تفاصيل حياتهم مفضوحة إلى هذا الحد فتكون تلك الجدران الرفيعة سببا في قطع وتشوه العلاقات الاجتماعية بينهم. والمؤسف حقيقة أن الإنشاءات الحديثة تسعى باستمرار وراء تخفيف وزن الحوائط بغرض التوفير في تكاليف الهيكل الإنشائي وهو ما يزيد الطين بله حتى أنه أصبح شراء بيت أو شقة جدرانها لا تنقل الأصوات في مدينة مثل اسطانبول مثلا لهو أمر نادر والحصول عليه يكلف المزيد من الأموال لأنه يعتبر خاصية أو ميزة “استثنائية” يتم إبرازها في الإعلانات التي تضعها الشركات العقارية !!!!!!!! ولا شك أننا كمجتمعات لها ثقافة تهتم بالخصوصية السمعية والبصرية نعيش في حالة من عدم التوائم من جراء فقدان الأثنان في بيوتنا التي نعيش فيها حاليا.

التعاون بين أفراد العائلة في بناء حوائط المساكن باستخدام التربة يزيد من الترابط الاجتماعي ويسقط الحواجز بين الأفراد
– اقتصادي
يدعي البعض أن البناء بالحوائط الحاملة مكلف نظرا للزيادة في كمية الطوب المستخدمة بسبب سماكة الحوائط ونظرا لارتفاع أجور البنائين !!!! والحقيقة أننا نحن المعماريون نتحمل قدر كبير من المسئولية عن هذه المشكلة ويمكنا بنفس القدر أن نساهم في حلها ولكن كيف؟
لقد تحدثت في محاضرات ومقالات عدة عن التقنية التي كرست لها حياتي المهنية تقريبا لصناعة طوب من التربة المضغوطة ووضحت بالأرقام التي لا تخطئ كيف يمكن الحصول على خفض يصل لمقدار النصف في تكلفة صناعة هذا الطوب بالمقارنة عن الطوب الأحمر المثيل وأن هذا الطوب مخصص للحوائط الحاملة كونه ثقيل الوزن وبالتالي فهو يَحمِل ولا يُحمَل واستخدامه كفيل بأن يعكس هذه التكاليف تماماً وعلى الجانب الآخر فأن تصميم مبان توظف نظام الحوائط الحاملة بكميات كبيرة يمكنه أن يحل القسم الآخر من المشكلة بتوفير فرص عمل كثيرة للبنائين وبالتالي سوف يساهم فورا في خفض أجورهم بل وليس ذلك فحسب بل أن هذا النظام الإنشائي الكثيف العمالة يمكنه أن يساهم بصورة فعالة في خفض نسب البطاله وهو أمر تحتاجه كثيرا مجتمعاتنا المكتظة بالعاطلين عن العمل والتي تعاني من مشكلات اقتصادية كبيرة ولا سيما بعد جائحة كورونا والحروب التي نشبت بعدها في أوكرانيا ومن بعدها غزة.
وهناك عيب آخر يؤخذ على نظام الحوائط الحاملة هو المساحة الكبيرة التي تستهلكها الحوائط ولا سيما وأن سمك أي حائط لا يمكن أن يقل عن 25 سم حسب ما تنص عليه معظم الأكواد إلا أن هناك أيضا اعتقاد خاطيء عند الكثيرين بأنه لا مهرب من هذا العيب !!!!! وقد يغيب عن الكثيرين أنه بالإمكان صياغة نظام الحوائط الحاملة بصورة تقترب كثيرا من الإنشاء الهيكلي وذلك اعتمادا على فكرة ما يسمى بالـ “العقد العاتق” وهذا العقد يكون مدفون في الحائط ويعفي قطاع الحائط اسفله من نقل الحمل إلى أسفل وبخلاف العقد العاتق هناك حل آخر عبقري للتغلب على مشكلة سماكة الجدران وهو شبيه بفكرة العقد العاتق إنشائيا ولكنه يختلف عنه وظيفيا ألا وهو تصميم تجاويف متعددة الوظائف في الحوائط ، تلك التجاويف قد تستخدم كخزانات للملابس أو كخزانات لأدوات المائدة والطعام أو تشكيلات تثري الصورة البصرية للفراغ الداخلي. في النهاية لا يجب على المصمم الاستسلام لحقيقة أن سماكة الحائط هي عيب محض بل يمكن تحويل هذا العيب وهذه المشكلة إلى ميزة من خلال التصور الإبداعي للفراغ وهنا يجب أن أنوه لنقطة هامة ألا وهي أن من يستخدم هذا النظام الإنشائي يكون كمن ينحت الفراغ بصورة ثلاثية الأبعاد.
أن من يشكك في الجدوى الاقتصادية لتوظيف نظام الحوائط الحاملة عليه أن يطلع على التجمعات السكنية الغير رسمية في أحزمة المدن وأطرافها وسيجد أنه حتى وقت قريب حينما كان هناك وفرة في المعروض من الطوب الأحمر الذي تنتجه القمائن الأهلية بأسعار رخيصة في متناول يد البسطاء كان النظام السائد والأنسب والأوفر للبناء في تلك التجمعات هو البناء بالحوائط الحاملة من الطوب الأحمر وكان الأهالي يستخدمونه لبناء مساكنهم لعدة طوابق إلى أن حدث التضييق على تلك القمائن وأغلق معظمها فقل المعروض من الطوب الأهلي وأرتفع سعره بالتبعية فبدأ الناس مجبورين للإتجاه للنظام الهيكلي ولعل مدن العمال التي أنشأتها الدولة بشمال الجيزة بمنطقة إمبابة وجنوب القاهرة في منطقة حلوان بنظام الحوائط الحاملة في الستينات دليل أيضا ليس فقط على الوفر في التكلفة الذي يحققه هذا النسق بل أيضا على كفائته في تلبية الحاجة لبناء مستدام.
وعليه فأنا أرى أننا لدينا فرصة كبيرة جدا في توفير إسكان اقتصادي ملائم في متناول أيدي الناس مرة أخرى إذا ما تبنينا هذا النسق في الإنشاء باستخدام طوب من التربة المضغوطة المثبتة بعد إنتاجه بكميات اقتصادية تجعله يحقق الوفر المستهدف. وأن مثل هذا التوجه سيكون له قيمة مضافة أخرى في دعم تخفيض نسب البطالة إلى حد بعيد.
– أداء حراري
أحد الجمل الشهيرة التي اسمعها من كثير من الزملاء المنتقدين لاستخدام النظام الإنشائي للحوائط الحاملة بغرض توفير ارتياح حراري داخل فراغات البناء هي:
” يا عزيزي هناك بدائل حديثة للعزل الحراري بالحوائط ، فهناك زجاج يوفر عزل حراري ممتاز وهناك تطور في صناعة البوليسترين وغيره من المواد العازلة الحديثة فلماذا تصر على التصميم باستخدام هذه الحوائط السميكة السخيفة ؟!!!!!!!!!”
والحقيقة أنني أعذرهم حينما يقولون هذه الجملة كونهم يرون أن غاية ما يجب للحائط القيام به هو أن يوفر عزل حراري جيد وحسب وهذا في الحقيقة خطأ علمي شائع جدا عند الكثيرين إذا أننا في بلادنا العربية الحارة والتي تتفاوت فيها درجات الحرارة بين الليل والنهار بقيم كبيرة تصل أحيانا إلى 20 درجة مئوية يكون من المطلوب أن ننظر لموضوع الراحة الحرارية من منظور “الأداء الحراري” للحائط وليس “العزل الحراري” له والفارق شاسع بين الأثنان فالأداء الحراري يجمع بين خاصية العزل وخاصية أخرى في غاية الأهمية وهي تسمى “السعة الحرارية” وهي خاصية تصف قدرة الخامة على تخزين الطاقة الحرارية وبالتالي قدرة خامة البناء على تنظيم الحرارة داخل الفراغ والحفاظ عليها بصورة مستقرة إلى حد كبير فتكون كما الرفيق الطيب الذي يجالسك ويسألك باستمرار اذا كان لديك فائض من حرارة سيتحمله عنك وإذا كان لديك نقص منها سيمنحك إياها من عنده وهكذا.
هذه الخاصية يكون لها تأثير مذهل عندما يكون الفرق بين درجات الحرارة كبير اثناء اليوم وتقاس بمقدار الطاقة التي يمتصها متر مكعب من المادة لترتفع درجة حرارتها درجة واحدة مئوية.
وهي الخاصية التي تحفظ أعضاء أجسادنا الداخلية من التعرض لصدمة التغير العنيف في درجات الحرارة فمن اعجاز الخالق سبحانه وتعالى أن جعل الماء له سعة حرارية كبيرة ( 4179 كيلو جول / متر مكعب ) وجعل اجسادنا تتشكل مما نسبته 70% من الماء. فإذا ما تخيلنا أن أحدنا كان يجلس في درجة حرارة 20 درجة مئوية مثلا داخل فراغ مكيف ثم أنتقل الى الخارج ليفاجئ بدرجة الحرارة حول الخمسين درجة مئوية فماذا يحدث لو تم نقل هذا التغيير العظيم في درجات الحرارة إلى الأعضاء الداخلية للجسم ؟ بالتأكيد سيحدث صدمة يليها إنهيار تام لوظائف الجسم.
الأمر نفسه يحدث في البحار والأنهار حيث لو تعرضت الأسماك والكائنات الحية بدخلها لهذا التغير الشديد في درجات الحرارة لحدث أنهيار في النظام الإيكولوجي للبحار تماماً.
هذه الخاصية العظيمة هي التي تجعلك تحتسي قدح الشاي على مهل وأنت مطمئن أنه لن يبرد سريعا لأن كمية الطاقة المختزنة بداخله كبيرة وتستهلك وقت طويل كي تتخلص منها للوسط المحيط. وهي التي تجعل الفلاحين يشعلون أفران الحطب ثم بعد أن يطفئونها يضعون طعامهم وهم مطمئنون أنه سوف ينضج على مهل دون أن يحترق ثم من بعد ذلك ينامون فوقها أو بجوارها ليستمتعوا بدفئها الممتد في ليالي الشتاء الطويلة الباردة……..الأمثلة كثيرة جدا على ما تؤثر به هذه الخاصية في حياتنا.
على الجانب الآخر من اللطيف أن نعلم أن الهواء على عكس الماء له سعة حرارية قليلة ( 1012 كيلو جول / متر مكعب ) وبالتالي يسهل استخدامه كوسيط في عمليات التبريد خصوصا في أجهزة التكييف التي تملأ بيوتنا حيث يمكن تبريده بسهولة وسرعة شديدة فهو يبرد سريعا ويسخن سريعا ولا يحتفظ بالطاقة بداخله إلا لمدى زمني قصير.
ولعل جميعنا يتذكر مقولة الأجداد الشهيرة بأن “بيوت الطين ” كانت باردة في الصيف ودافئة في الشتاء فالتفسير العلمي لهذه المقولة يكون كالتالي:
تلك البيوت المبنية من جدران سميكة مصنوعة من التربة الطينية المدموكة بها ثلاث خصائص عظيمة تعمل بصورة منظومية مجتمعة كالتالي:
1- دمك التربة الطينية الذي يتم أثناء بناء جدران تلك البيوت يزيد من كثافتها أو بالأدق الوزن الحجمي لها (علمياً وحدة الكثافة ترتبط بالمادة الواحدة) وهذه الزيادة تتناسب طرديا مع السعة الحرارية أي كلما زادت الكثافة زادت السعة الحرارية.
هذا الدمك مع السماكة الكبيرة للجدار تحول الجدار حرفيا الى خزان للطاقة يمتص ما يتوفر منها في الوسط المحيط به سواء بالتوصيل أو بالإشعاع وتستمر هذه العملية مادامت درجة حرارته أقل من درجة حرارة وسطه المحيط به ثم اذا ما بدأت درجة حرارة الوسط المحيط به في الإنخفاض يبدأ الجدار في بث هذه الحرارة وعكس اتجاهها.
2- الخامة المبني بها الجدار هي مزيج من التربة الطينية والقش وهذا الخليط له موصلية حرارية منخفضة ( عزل حراري مرتفع ) وبالتالي فهي لا تسمح بعبور الحرارة خلالها بسهولة.
3- الخامة المبني بها الجدار هي خامة مسامية تستطيع امتصاص الرطوبة من الهواء المحيط بها وتستطيع ضخها مرة أخرى وبالتالي فهي ليس لديها القدرة على تنظيم الحرارة فقط بل تنظيم الرطوبة أيضاً.
إذا ما جمعنا الثلاث خصائص السابقة ومع علمنا التام بحقيقة أن الطاقة الحرارية تنتقل دوما من الأعلى إلى الأقل يكون تصورنا لأداء البيت المبني جدارنه الحاملة بالتربة الطينية كالتالي:
في فصل الصيف :
تعمل أولا خاصية العزل الحراري على الحيلولة دون عبور الحرارة من الخارج للداخل بسهولة ويقوم الجدار بفضل السعة الحرارية الكبيرة له بامتصاص الطاقة الحرارية من الخارج الساخن وتخزينها بداخله ويتحول حينها إلى (خزان لتخزين الحرارة ) ولا يسمح بمرورها للداخل إلا بعد مرورمدة زمنية طويلة قد تصل إلى اثنى عشر ساعة أحيانا ( تعتمد على سماكة الجدار ومقدار دمك التربة …الخ) وهو ما يسمى بزمن التأخير Time Lag وبنهاية هذه المدة تكون ذروة درجة حرارة سطحه الداخلي أقل من الذروة التي حدثت في حرارة الخارج أثناء النهار وهذا يحدث بسبب ما يسمى ب (تخميد الحرارة ) Temperature Damping في هذه الأثناء يحدث أمران أولهما أن هذا الجدار يفرغ جزء من طاقته الى التربة كونه متصل بها عن طريق الأساسات وجزء آخر يستهلكه في تبخير أية مياه مختزنة داخل جزيئاته وعلى الجانب الآخر وبنهاية هذه المدة الزمنية فأن درجة حرارة الخارج تكون قد أنخفضت كثيرا فيقوم الجدار بضخ الحرارة مرة أخرى ببطء للخارج وجزء منها للداخل إذا ما كانت حرارة الداخل أقل من الخارج ولكن مع جفاف الهواء في الداخل بسبب امتصاص الجدار للرطوبة المتواجدة داخل فراغات المبنى يكون تاثير الإحساس بارتفاع درجة الحرارة داخل المبنى طفيف وفي حال قيام المستخدمين للمبنى بفتح النوافذ والسماح بمرور تيار هواء منعش عبر الفراغات يقل كثيرا هذا الإحساس الطفيف بارتفاع درجة الحرارة في حال حدوثه.
يقوم الجدار بتفريغ طاقته الحرارية طوال فترة الليل فيبرد بصورة كاملة ويصير وكأنه (خزان للبرودة) فيصبح على استعداد لإمتصاص الحرارة من جديد مرة أخرى بالنهار سواء من الخارج الساخن أو من الفراغات الداخلية للمبنى فيعمل على تبريدها (إن كانت ساخنة).
في فصل الشتاء :
من نعمة الله علينا أن الشتاء في بلادنا العربية يكون دافيء نسبيا في النهار وشديد البرودة في الليل فتعمل نفس الخصائص بنفس الكيفية ولكن مع فارق مهم يحدث بسبب انخفاض زاوية ارتفاع الشمس فتسمح بالتسخين المباشر للجدران في الثلاث اتجاهات وبدرجة بسيطة في اتجاه الشمال. هذا التسخين المباشر للجدران يرفع من حرارتها بصورة كبيرة ويجعلها تحتفظ بطاقة حرارية أعلى مما كانت تحتفظ به في الصيف وبالتالي تزداد قدرة الجدار على ضخ مزيد من الطاقة للداخل فيرفع من حرارته وللخارج فيفقد من طاقتة التي اختزنتها بالنهارهذا فضلا عن أن غلق النوافذ في الشتاء يساهم في عدم اختراق تيارات الهواء لفراغات البيت بل ويساعد الزجاج المعرض لأشعة الشمس المنخفضة في تخزين الحرارة في الداخل وعدم السماح لها بالعبور بالاتجاه المعاكس.
سيقول أحدهم وما المانع في أن نصنع بيت معزول بالكامل ونضع زجاج معزول على الفتحات ولا نسمح نهائيا للحرارة بالإنتقال سواء من الداخل أو من الخارج ؟
أقول أن هذه التجربة قامت بها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض منذ حوالي أربع سنوات ، حيث قامت شركة ألمانية بتنفيذ نموذج منزل معزول بالكامل وبصورة محكمة أقرب إلى أن يكون (تورمس) شاي !!!! ولكن المصيبة في أن هذا البيت حتى وإن كان معزول تماما عن الخارج إلا أنه يحتاج للتبريد فهناك مصادر تشع حرارة بداخله من القاطنين والأجهزة الكهربائية وخلافه وبالتالي هناك حاجة لوجود أجهزة تكييف تعمل على تبريد الهواء بداخله ويكون كل ما يتم تبريده في هذه الحالة هو الهواء فقط وبمجرد فتح النوافذ أو حتى باب هذا المنزل يتسرب فورا هذا الهواء البارد منه ونكون قد خسرنا كل ما تكلفناه من ثمن لطاقة كهربائية لتبريد هذا الهواء أي أننا استثمرنا أموالنا في اتجاه خاطئ ولذلك نلاحظ جميعاً أننا بعد إيقاف أجهزة التكييف التي تعمل على تبريد الهواء في بيوتنا بأننا نشعر فورا بالاختناق وبالحرارة مرة أخرى لأن البيئة الداخلية لبيوتنا لا توجد بها الكثير من العناصر ذات السعة الحرارية العالية التي يمكنها اختزان البرودة. ولكن في المقابل حينما يكون البيت مبني بجدران لها سعة حرارية عالية ففي حال تم تبريده بواسطة مكيفات هواء فأن هذه البرودة تبقى لمدة طويلة بعد توقف تلك المكيفات عن العمل.
ناهيك عن أن غالبية أجهزة التكييف الصناعي التي تعمل في بيوتنا هي من النوع الاسبليت التي لا تجدد الهواء على الإطلاق بل تقوم فقط بتبريده وإعادة ضخه مرة ثانية في الفراغ بكامل ملوثاته وقدرتها على امتصاص الرطوبة محدود نسبيا في حال أردنا تشغيلها على درجات حرارة متوسطة (26 درجة مئوية مثلا) فتكون النتيجة أننا نعيش في بيئة ملوثة طوال الوقت لكون فلاتر هذه الأجهزة هي بيئة خصبة لكافة أنواع البكتريا التي تتسبب في الكثير من الحساسية والأمراض الصدرية.
ما ينطبق على خامة التربة الطينية ينطبق على أي خامة بناء أخرى لها سعة حرارية كبيرة ولذلك كله فأنا أرى أن المباني ذات الجداران الحاملة التي تعمل جدرانها كمنظم للحرارة Thermal Regulator بدلا من أن تكون فقط عازلة للحرارة Thermal Insulator هي بالتأكيد أفضل وأكثر صحة لأجسادنا في بيئتنا العربية الحارة.
وإذا ما أردنا الحصول على أفضل نتيجة للأداء الحراري للجدران على الإطلاق فعلينا إذا الجمع بين الخاصيتين معا فيكون للجدار الواحد طبقتان الخارجية منها ذات عزل حراري جيد والداخلية منها ذات سعة حرارية كبيرة وهذا ما أنتهت اليه الكثير من الأبحاث العلمية المرتبطة بمناخ منطقتنا العربية.
هذه المميزات الحرارية لا تتوفر حصرا إلا في الحوائط الحاملة ذات السماكة والكثافة الكبيرين والتي لا يمكن دمجها مع نظام الإنشاء الهيكلي لثقل وزنها ولهذا نجد أن النسبة العظمى منا نشتكي من أن بيوتنا الحديثة هي عبارة عن أفران ملتهبة في الصيف وثلاجات باردة في الشتاء ومعظمنا تثقله فواتير الكهرباء الباهظة للتغلب على هذه الإشكالية المزمنة ناهيك عن أمراض حساسية الصدر التي انتشرت بين أطفالنا وكل هذا عبارة عن فاتورة ندفعها بسبب تركنا لهذا النسق الذكي وراء ظهورنا وسعينا المحموم في بناء مساكن نسميها “حديثة” لا علاقة لها بطبيعة بيئتنا المحلية.
أتمنى في ظل وجود هذه الأبعاد المرتبطة بهذا النسق الإنشائي أن تقوم مدارس وكليات العمارة في جامعاتنا العربية بإعادة النظر في جدية وعمق وحداثة المحتوى العلمي والعملي الذي تتناوله به في المقررات التي يتلقاها طلبة العمارة حتى يعود هذا النظام الإنشائي مرة أخرى للحياة في صناعة البناء في بلادنا وتستفيد منه مجتمعاتنا كنظام رديف يصلح كما ذكرت لبناء المساكن والمباني المنخفضة الارتفاعات.
محمد الرافعي ، 22 ديسمبر 2023