المسجد ..القضية (3) – أين انشراح الصدر؟
كثيرا ما نرتاد مساجد لنصلي بها فنجد أنفسنا وقد أحاطت بنا حالة عظيمة من إنشراح الصدر وإحساس غامر بسكينة النفس وطمأنينة القلب والروح حتى نتمنى لو لا نغادرها ونبقى بها حتى آخر العمر، وعلى العكس من ذلك كم من مرة مع الأسف ندخل إلى مساجد نجد أنفسنا غير متآلفين مع المكان وبمجرد انتهاء الصلاة نهم بالخروج منها سريعاً ولولا فعل الصلاة نفسه ما شعرنا براحة قط في المكان، ولو كان هناك فرصة للصلاة بصحن تلك المساجد في الخارج لما ترددنا للحظة للخروج للصلاة في الصحن مفضلينه عن الصلاة في الداخل حتى ولو تحملنا حرارة الجو قليلا !!!!!!!!! فهل هناك تفسير منطقي لذلك ؟
هذا ما اجتهدنا في دراسته أثناء تصميمنا لهذا المسجد الجامع، وهنا برز سؤال أساسي : بخلاف الأسباب النفسية أو الميتا فيزيقية التي قد تكون مرتبطة بالشخص ذاته وبخلفيته الثقافية والنفسية ، هل هناك أسباب مادية ملموسة نستطيع من خلال التعامل معها أن نحقق تجربة فراغية بها هذا النوع من السكينة والطمأنينة داخل المسجد ؟
للإجابة عن هذا السؤال قمنا بعمل دراسات أشبه بدراسات علم النفس السلوكي ودراسة العلاقات بين تأثير المكان والسلوك ودراسات تختص بعلم الجمال، وخلصنا من تلك الدراسات بمجموعة من العناصر التي يمكن من خلالها تعزيز تلك الأحاسيس الإيجابية كالتالي:
الضوء
النسب والمقياس
بساطة التفاصيل
الراحة
الضوء
الحقيقة أن الضوء هو أحد أهم العناصر التي تتحكم في المشاعر النفسية الإيجابية المرتبطة بالفراغ في العمارة بصفة عامة وفي المساجد بصفة خاصة فالنور صفة ترتبط بالمولى عز وجل، والنور يشير للجنة، ويرتبط بالوضوح والشفافية ويرمز للصدق ويوحي بالبشرى والثواب فلا غرو أن يذكر النور في القرآن في أكثر من أية وهو مرتبط بالثواب والإشراق وتجد المساجد التي يغمرها ضوء النهار من أكثر المساجد انشراحاً للقلب. على الجانب الآخر ونظراً لأننا نقضي أطول وقت في المسجد في يوم الجمعة ساعة الظهيرة تحديداً فإن المقصود بالضوء هنا هو ضوء النهار الطبيعي ، فجزء كبير من الصورة الذهنية التي نحتفظ بها في مخيلتنا عن المسجد سنجدها مرتبطة بصلاة الجمعة وشكل الفراغ في هذا الوقت تحديداً. ولذا كان أكبر تحدي أمامنا في كيفية توظيف هذا العنصر في داخل مسجدنا ؟ فاجتهدنا من خلال الحلول والمعالجات التالية
صممنا حوائط المسجد ” فيما عدا حائط القبلة ” بفتحات شبابيك كبيرة تسمح بدخول أكبر قدر من الإضاءة الطبيعية وقد أحطنا المسجد برواق كبير من الخارج يعمل على ترشيح هذا الضوء كي لا يدخل بصورة مباشرة مزعجة من الشبابيك وفي نفس الوقت يفيد هذا الرواق في عزل صخب الخارج نسبياً عن قاعة الصلاة
ونظرا لارتفاع السقف في المنطقة الوسطى من قاعة الصلاة فقد قمنا بتصميم مجموعة من الفتحات الشريطية في هذا السقف تعمل على تبديد الظلام في الأعلى وإضاءته بصورة طبيعية ( مع الأسف قام ممثل المالك بإلغائها في التنفيذ )، إضافة لاستغلال فارق المنسوب بين ارتفاع السقفين في وضع مجموعة من الفتحات جميعها ساهم بشكل كبير بغمر الفراغ بضوء نهاري ناعم وجميل
اعتمدنا على اللون الأبيض في تغطية معظم الأسطح الداخلية للمسجد لإضفاء جو من الصفاء ولزيادة تعزيز قدرة ضوء النهار بالتغلغل إلى العمق الكبير لقاعة الصلاة
على عكس ما هو سائد في المساجد فقد قررنا أن يكون محراب القبلة هو أكثر نقطة مضيئة في حائط القبلة فقد قمنا بتحريك حائط المحراب للخارج ووضعنا زجاج في المسافة الفاصلة بينه وبين حائط القبلة بحيث يسمح لضوء النهار أن يغمر المحراب كما هو موضح في الصورة
وضعنا فناء سماوي مفتوح في مصلى النساء كما قد أسلفنا ليضيء المكان بإضاءة طبيعية
النسب والمقياس
المسجد الجامع هو في العادة يكون ذو مسطح وارتفاع كبيرين، وفي حالة مشروعنا فإن مسجدنا يتسع لعدد 2500 مصلي وهذا نظراً لكونه المسجد الجامع الكبير بمركز المدينة. وكبر الحجم يمكن أن يكون مشكلة إذا لم يراعى المقياس الإنساني حيث يفقد الواحد منا الإحساس بالحميمية ويشعر بالضياع داخل هذا الفراغ العملاق. وللتغلب على هذا التضارب فقد قمنا بتقسيم هذا الفراغ الكبير لمجموعة مترابطة من الفراغات المتدرجة في النسب والمقياس بحيث قمنا بخلق تدرج في الارتفاعات تكسر من حدة الإحساس بضخامة الفراغ فضلا عن قناعتنا بأن البائكات المكونة من الأعمدة والعقود تلعب دور فعال في تجزئة هذا الفراغ الضخم لمجموعة من الحيزات التي يستطيع المصليين فيها الإحساس بالاحتواء والطمأنينة.
بساطة التفاصيل
هذه النقطة تحدثنا فيها في أول مقال قمنا بنشره فنحن حاولنا أن نتبع القاعدة الشرعية التي تنهى عن المبالغة في الزخرفة والتلوين وجميع ما يلهي عن الخشوع في الصلاة والذكر هذا فضلاً عن قناعتنا بأن البساطة هي الأقرب للجمال الصادق فلذلك عمدنا إلى تبسيط المفردات البصرية في داخل قاعة الصلاة إلى الحد الذي يحقق هذه القناعة.
الراحة
لا وجود لحالة من السكينة أو الطمأنينة بدون إحساس بالراحة، وعناصر الراحة التي نستطيع أن نتحكم بها نحن المعماريون في هذه الحالة هي: الإضاءة ، والصوت ، والحرارة ، ولقد تحدثنا عن الأولى وأتقنا توزيع الثانية من خلال دمج السماعات في الكمرات والأعصاب الخشبية المنتشرة بصورة منظمة في قاعة الصلاة مع معالجة السقف بأعصاب بارزة تمنع تكون الصدى وتحد من الضجيج، وسنتحدث بالتفصيل عن الثالثة في مقال قادم بإذن الله.
محمد الرافعي ، 26 ديسمبر 2019