المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة
العمارة ليست خطوط سريالية وليست موضة تتغير وتتبدل وفق الهوى، العمارة الحقيقية هي التي تنجح في احتواء البشر ماديا ومعنويا فتعكس جذور ثقافتهم وتدعمها وتؤكد هويتهم وتقويها وتستجيب لتطلعاتهم في تماهي تام مع المحيط والبيئة الطبيعية، فنحن خلقنا للإعمار وليس للدمار على حساب البيئة الطبيعية
العمارة الحقيقية هي التي يكون كل خط فيها له معنى وفق رؤية صاغها المعماري بصدق بعيداً عن “الأنا” وبعيداً عن البهرجة الغير مبررة
لكن المعماري لا يعزف وحده فبدون المالك الواعي المدرك لدور العمارة كسجل موثق للأجيال لا يكتب للعمل النجاح ولا التميز.
العمارة مثلها كسائر الفنون حيث الصدق والإخلاص يمتزجان مع الموهبة والحرفة فيحمل النتاج بصمة من هذه الروح الطيبة فيشع إحساساً رائعا يشعر به كل من في المكان حتى وإن لم يدركوا مصدره إلا أنه يصلهم ويربطهم به.
تصميم “مسجد” هو شرف عظيم يحظى به المعماري المسلم، إلا أن قضية تصميمه تضع المعماري أمام تحديين حقيقيين أولهما: هو تحد أمام ” الذات المعمارية ” حيث تحركه نزعته وهواه وميوله التشكيلية وحيث يطغى حب الظهور على الصدق وتحرى الحقيقة فكثير من المعماريين المعاصرين مع الأسف يبحثون عن “البصمة الشخصية” بأكثر من بحثهم عن عمارة حقيقية صادقة. فتجد أغلبهم يهتم بالشكل على حساب المضمون فلا هو عالج مشكلات حياتية ولا تبنى قضايا أساسية وطرح لها حلولا واقعية تفيد الناس.
أما التحدي الآخر فهو يواجه موهبتهم وحرفيتهم ومدى قدرتهم على صياغة ” الجمال الأصيل ” وهو الجمال المشكل من المفردات البسيطة والتكوينات الكتليه الشيقة البعيد عن الزينة أو استخدام الخامات الباهظة الغريبة عن المكان.
فالمسجد كمكان مقدس لا يسري عليه ما يسري على سائر المباني فهو محكوم بحدود شرعية من غير المنطقي بالمرة تخطيها أو التغافل عنها فالأصل الشرعي في أي مسجد أن يقي الناس من برد الشتاء وحرارة الصيف وأن يمنحهم السكينة فيعينهم على الخشوع والذكر والتجرد من عوالق الحياة. وكأنه كمبنى ذو طبيعة خاصة يميل أكثر إلى البساطة والبعد عن الإسراف والتحذلق الذي أصبح سمة تميز العديد من التصميمات المعاصرة ” حتى وإن ادعى صاحبها عكس ذلك ” فبناء المسجد من وجهة نظرنا يتحقق فيه جمال التكوين من خلال الصدق ونبذ التكلف والزينة الغير مبررة.
الصورة لتصميمنا للمسجد الكبير بمدينة العيينة 35 كم شمال غرب مدينة الرياض.
من خلال هذه الرؤية وإلى جانب دراساتنا المستفيضة للقضايا والتحديات التي تواجه تصاميم المساجد المعاصرة كونا منظومة أهدافنا التصميمية لهذا المشروع واجتهدنا في وضع الحلول المناسبة لها والتي سنعرضها هنا بإذن الله من خلال مجموعة من المقالات المتتابعة ونحتسبها عند الله من زكاة العلم لنشر وتعميم الفائدة ولعل يكون هناك من يستلهم من تلك الأفكار فيستخدمها في مشاريع تحقق النفع لمجتمعاتنا المسلمة.
المسجد ……القضية (1) – الحاضر الغائب
لا شك في أن هناك عدة قضايا تكتنف تصميم المسجد في وقتنا المعاصر تفرض مجموعة من التحديات التي يجب على المصمم أخذها في الاعتبار ومحاولة وضع حلول مناسبة لها وفق ترتيب أولوياتها.
أولى هذه القضايا من وجهة نظرنا كانت ممثلة في غياب دور المسجد في ضبط إيقاع حياة المجتمع، لقد تم اختزال وتقليص دور المسجد وحصره ليكون مجرد مكان لأداء الصلوات الخمس فقط بعد أن كان يلعب دور محوري في حياة المدينة.
المساجد كانت دائماً من أهم المبان التي تميز مراكز المدن القديمة ليس فقط لأهميتها الرمزية بل لأنها كانت تحوي بداخلها أنشطة عديدة شديدة الارتباط بالحياة اليومية للمجتمع كمدارس للعلوم بمختلف أنواعها وأماكن لجلسات القضاء وبعضها الحق به مشافي وبعضها الحق به مكتبات عامه وبعضها ألحق به سكن للتجار أو طلبة العلم.
التحدي الذي فرضته حالة المساجد المعاصرة في هذه القضية كان ممثلا في كيفية إعادة دمج المسجد في نسيج حياة المجتمع مرة أخرى، ولا يعني ذلك بالطبع أن نتغافل عن وجود مؤسسات حديثة معاصرة أصبحت مسئولة عن تقديم الخدمات التي كان يقوم بها المسجد وبصورة محترفة ومتخصصة ولكن في ذات الوقت لا نريد لمسجد مشروعنا أن يكون مجرد بناء ضخم مبهم منفصل عن النسيج العمراني المحيط به ومقفل طوال اليوم ليفتح أبوابه فقط خمس مرات في اليوم ولدقائق معدودة ثم يعود ليغلق مرة ثانية!!!!!!

لحسن الحظ أن موقع المشروع يقع في قطعة أرض كبيرة في مركز مدينة العيينة وهذه المدينة من المدن الصغيرة القريبة جداً من الرياض العاصمة وتحظى بأهمية خاصة لدى الدولة كونها مسقط رأس الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولحسن الحظ أن يكون المالك شخصية محترمة لها ثقلها الاجتماعي وعلى قدر عال من الثقافة والكرم والرغبة في البذل والعطاء لمدينته فمثل لنا هذا أكبر فرصة كمدخل للحل
لقد كان المطروح في البداية مجرد مشروع لإنشاء مسجد جامع وسكن للإمام والمؤذن ومبان استثمارية تمول الوقف ، ولكن بسعة صدر كبيرة تقبل منا المالك مقترحاتنا لتطوير البرنامج الخاص بالمشروع لنضع تصور لمنظومة متكاملة من العناصر التي يلعب فيها المسجد دور محوري في ضبط الإيقاع اليومي ضمن نسيج عمراني متكامل يضم مكتبة عامة ومتحف صغير للمدينة ودار رعاية للمسنين ومركز ثقافي تعليمي وترفيهي للشباب وآخر مماثل للفتيات مع زيادة مجموعة أنشطة نسوية تؤهلهم للعمل الخاص ولهذا بذلنا جل جهدنا في تطوير التصميم العمراني للمشروع بحيث يكون المسجد وساحته بمثابة امتداد طبيعي لتلك الأنشطة ووضعنا أمام المالك عدة سيناريوهات عمرانية لكيفية تجاوب المسجد وساحته لمختلف المناسبات والأنشطة التي تمر بالمدينة، فالساحة الخارجية والرواق الخارجي المظلل للمسجد صممناهم ليستوعبوا مجموعة من الأنشطة المتباينة كالعرض المفتوح للأعمال التي ينتجها الشباب والفتيات في المراكز الثقافية الفنية وكساحة للتسوق أيام الجمعة وكساحة للترفيه للعائلات في أوقات المناخ المعتدل وكمكان للاحتفالات القومية يستوعب الفلكولور والرقصات الشعبية بخلاف كون الساحة تصلح كمصلى خارجي لصلاة العيدين
هذا التصميم وهذه الاعتبارات بالتأكيد لا تغني عن التشغيل الواعي للمشروع فضمن أهم مقترحاتنا كان أن يتم دمج إمام المسجد وأسرته ضمن الفريق الإداري والتشغيلي للمشروع لكسر الصورة النمطية عن رجل الدين البعيد عن الأنشطة الحياتية فلا تعارض إطلاقا بين أن يكون إمام المسجد هو أحد المشرفين على الشباب في المركز الثقافي يمارس وسطهم أي نشاط ثقافي أو ترفيهي بل على العكس ستعزز هذه الصورة إدراكهم لحقيقة الدين كمنهج للحياة بأكملها وستدعم الدور التربوي الذي يمكن أن يلعبه الإمام كقدوة لهؤلاء الشباب. وعليه فقد قصدنا في التصميم أن ندمج سكن الإمام والمؤذن ضمن النسيج بالصورة التي تسمح لهما بالخصوصية وفي نفس الوقت بالتفاعل مع باقي عناصر المشروع
محمد الرافعي ، 12 ديسمبر 2019