المسجد ..القضية (5) – لهجة أهل المكان.
هذه القضية لا تنسحب على تصميم المسجد فحسب، ولكنها تسري على تصميم أي مبنى عام.
لا يستطيع أحد إنكار ما تعيشه العمارة في عالمنا العربي من محنة لها مظاهر عدة، فالنتاج البنائي لتلك العمارة يعيش حالة من فقدان “الذات” ، فقدان الهوية، فقدان التميز. فالمتجول في الأقطار العربية والإسلامية من قرن مضى كان يمكنه أن يميز عمارة “المكان” بسهولة فهذه عمارة مملوكية مصرية وتلك دمشقية وهذه نجدية وأخرى مغربية وهكذا ، كان هناك “لهجات” مميزة لكل عمارة ترتبط بصورة وثيقة بالمكان وبثقافة أهله. الأمر ليس محصوراً فقط في التعبيرات والمفردات البصرية فحسب بل وفي الحلول الفراغية والعناصر البنائية التي أفرزتها أنساق تتخذ نفس القوانين الحاكمة ولكنها تختلف في الأشكال والحلول كلٌ بحسب بيئته.
الأمر دائما ما أشبهه باللغة المنطوقة فجميعنا في الوطن العربي نتحدث العربية ونستخدم ذات الثمانية والعشرين حرفاً أبجدياً ونشترك في كلمات عربية كثيرة…..ولكن في ذات الوقت لدينا تباين واسع في اللهجات بل ولدينا تمايز في بعض الكلمات المنحوتة والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمكان والبيئة الطبيعية والثقافية السائدة به.
من المفهوم بل ومن الجائز أنه حينما يصمم المعماري لأحدهم مسكناً خاصاً فيكون التصميم شكلاً وموضوعاً معبراً عن شخصية المالك فهذا حقه كمن يختار أن يرتدي زياً خاصاً ليعكس شخصيته وثقافته ومكانته الاجتماعية ولا يمكن لأحد أن يلومه مادام أنه لم يتطرف إلى حد كسر الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع أو التناقض معها. ولكن الأمر يختلف بالكلية حينما نكون بصدد تصميم مبنى عام حيث تكون دائرة التأثير هي المجتمع بأكمله ، في هذه الحالة يتحمل المعماري المصمم مسئولية ليست بالهينة لأنه يكون حينها مسئولا عن الحفاظ على جانب مهم من ثقافة هذا المجتمع ألا وهو أرثه البنائي وهوية المكان والرسائل الضمنية التي سيحملها هذا البناء للأجيال في المستقبل. فأنت كمعماري لست مطلق اليدين لتقرر أي “لهجة” سيتحدثها مبناك إلى أهل المكان! فهو لابد وأنه سيحدثهم ويتفاعل معهم وسينقل لهم رسائل في تجاربهم الحسية بفراغاته ومن خلال تعبيراته البصرية وهذه جميعا يجب وأن تكون ليس فقط مفهومة لديهم بل ويجب وأن تدعم أبجدياتهم ولهجتهم الخاصة ولا تناقضها.
بالتأكيد لا يفهم من ذلك أنه لا يوجد مجال للتجديد أو الإبداع ، على العكس تماماً فمثلما هناك دائما تعبيرات وصياغات مبدعة ومتجددة في اللغة المنطوقة فبنفس الكيفية المجال مفتوح ولا سقف له للإبداع في اللغة البصرية باستخدام نفس الأبجديات. ومثلما هناك صياغات لغوية بسيطة أو فقيرة هناك أيضاً صياغات مركبة وفي قمة البلاغة وكلاهما يستخدمان نفس الأبجديات ولا حاجة لاستيراد أي ابجديات أجنبية دخيلة لتحقيق الإبداع.
في مشروعنا لتصميم المسجد الكبير في مركز مدينة العيينة نحن ندرك بأننا نصمم مبنى عام في مركز مدينة في قلب منطقة نجد وبالتالي فقد حاولنا بداية أن نحلل الصياغات البصرية المحلية في المكان للوصول إلى القواعد الحاكمة والمفردات والأبجديات الأساسية المشكلة لها. فعلى سبيل المثال لا الحصر تمكنا من الحصول على بعض المفردات كالتالي
العقد المستوي والعقد المثلث
الفتحات المثلثة
الشرافات المدرجة بنهاية خط السماء
الأطر الجبسية حول الفتحات
الألوان الصريحة في زخارف هندسية
قواعد الجدران المصنوعة من حجر الرياض البيج المشتهرة به المنطقة
الأعصاب الخشبية المتوازية التي تدعم الأسقف
الألوان الترابية للمسطحات الكبيرة من الجدران
وبعض الصياغات والتراكيب كالتالي
سيطرة الكتلة وتركيبها
سيطرة السد على المفتوح
خط السماء المتراكب
ارتباط المئذنة بكتلة المسجد من خلال سلم خارجي
مصفوفات العقود توازي صفوف المصلين
بالطبع لم تكن جميع الصياغات أو المفردات مرتبطة بالهوية البصرية فقط فبعضها جاء تلبية للوظيفة كما أسلفنا بخصوص مئذنة المسجد والبعض الآخر ارتبط برؤيتنا الفلسفية كما تحدثنا سابقاً عن المحراب والبعض كان مرتبط بمنظومة الراحة الحرارية كأبراج الهواء والتي سنتحدث عنها بالتفصيل في القضية القادمة بإذن الله.
بعض من هذه المفردات اجتهدنا في أن نجعلها وسيلة لدعم استمرارية الموروث الثقافي كتصميمنا مثلاً لمساحات في الواجهات الخارجية تحتوي على قطع من الخشب الملون بزخارف هندسية نجدية و مؤطره بأطر جبسية على غرار ما هو موجود بمباني الدرعية القديمة كما هو موضح بالصور ، وقصدنا من وراء ذلك أن نحافظ على استمرارية عمل الحرفيين المهرة الذين يشتغلون في هذا المجال والحفاظ على مواهبهم ولتدريب كوادر جديدة من الشباب على نفس الحرف.
لقد اجتهدنا وحاولنا استخدام وتطبيق جميع ما سبق وخلافه ، فلعلنا نكون قد وفقنا في جوانب ولم نوفق في جوانب أخرى ولا سيما وأننا في بعض الأحيان كنا نجبر على أمور بعينها كاستخدام العقد الموتور في الواجهات بديلاً عن العقد المستوي مثلاً ، هذا فضلاً عن خروج التنفيذ من دائرة سيطرتنا وبالتالي تم إجراء تعديلات كثيرة على التصميم الأصلي . ولكني كما أسلفت سابقاً أن العبرة في سلوك الطريق والثبات والإصرار على التمسك بالصدق لإنتاج عمارة حقيقية حتى وإن لم يتم تنفيذ جميع ما قام المعماري بتصميمه فحسبه أنه قد أرضى ضميره وحافظ على مبادئه
محمد الرافعي ، 9 يناير 2020