المسجد ……الصلاة في الحيز المعنوي
كلما وقعت عيناي على تصاميم حديثة للمساجد يقفز الى ذهني هذا السؤال الجوهري: هل هذا التصميم يعبر حقا عن حقيقة دور المسجد في المجتمع المسلم؟
لقد لعب المسجد قديما أدوارا عديدة في المجتمع الإسلامي حيث كان فضلا عن توفيره حيز تؤدى فيه الصلوات الخمس يومياً، إلا أنه كان يوفر ايضاً حيز تناقش فيه أحوال الرعية وتتخذ فيه قرارات تصريف أمور المسلمين وتنصب فيه جلسات القضاء وتدرس في أروقته العلوم الشرعية ويلحق به دور لليتامى ومشافي للمرضى…….وهكذا.
أما وقد تم فصل كل تلك الأنشطة الحياتية عن المسجد في واقعنا المعاصر حيث اضطلعت مؤسسات مدنية مختلفة للقيام بتلك الأدوار، يكون قد تبقى للمسجد المعاصر وظيفة واحدة أساسية ألا وهي أنه هو الحيز المخصص لتأدية عبادة الصلاة في جماعة إضافة إلى بعض الأنشطة التعبدية الثانوية من قراءة للقرآن وحلقات الذكر والدروس الشرعية.
ولكن هل عبادة الصلاة ترتبط ارتباط شرطي بهذا الحيز الفراغي المادي؟
في تقديري الخاص الإجابة “لا” ، فأنا أرى أن المسجد هو في الأساس حيز روحاني ومعنوي قبل أن يكون حيز فراغي مادي وإلا ما كنا قرأنا حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال:
” ….. جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل…..”
فالمتأمل في هذا الحديث قد يدرك أنه أيما مكان تسكن فيه الروح وتهدأ فيه النفس ويشعر فيه الإنسان بالراحة والطمأنينة سيكون هذا هو “مسجده ” مجازياً وحيزه الخاص المناسب للصلاة والذي من خلال خشوعه والقاءه للدنيا بصروفها وشواغلها وراء ظهره سيرقى الى تواصله مع خالقه سبحانه وتعالى ويناجيه في طاعة خالصة. وبالتالي قد لا يكون لدى الفرد المسلم حاجة أصلا لأي حيز مادي لأداء هذه العبادة سوى أن يوفر له هذا الحيز الشعور بالراحة والطمأنينة. وبالتالي نجد أن معظم التوجيهات النبوية تشير إلى عدم المبالغة والإسراف في التعامل مع الصورة المادية الفراغية للمسجد. وجميعنا نعلم ما قاله الفاروق رضي الله عنه في توجيهه لبناء المساجد حينما قال : ” أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر لتفتن الناس “
هذا الإطار الرحب لتصور الرسول الكريم ومن بعده السلف الصالح عن المسجد يجعل من أفنية المدارس والساحات العامة والصالات المغطاه ….الخ جميعها حيزات فراغية تصلح لأداء الصلاة في جماعة مادامت يتوفر بها الحماية من شدة الحر أو شدة البرد والمطر ومادامت تستطيع أن توفر للناس الشعور بالسكينة والطمأنينة.
بالتأكيد لا يمنع من أن يكون هناك “بناء ” ماديا للمسجد وهو أول ما فعله رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما هاجر من مكة إلى المدينة وأسس مسجده فيها ، ولكن إلى أية مدى يمكنا تصور هذا البناء “معمارياً ” وما حكم المبالغة في تشييد المساجد بل ومدى شرعية جعل البعض منها “صروح” بنائية؟
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي لنا أن نعي جيداً حديث نبينا صلوات الله عليه وسلم الذي يقول فيه :
” ما أُمِرْتُ بتشييدِ المساجدِ” ثم يعقب عليه ابنُ عبَّاسٍ: ” لَتُزخرِفُنَّها كما زخرَفَتِ اليهودُ والنَّصارى.”
ويقول المفسرون لهذا الحديث : ما أُمِرْتُ”، أي: ما أمَرني اللهُ عَزَّ وجَلَّ ولا كَلَّفني، “بتشْيِيدِ المساجِدِ”، والتَّشيِيدُ: هو المُبالَغةُ في البِناءِ والتَّطويلُ فيهِ، والمقْصودُ عدَمُ التَّكلُّفِ في بِناءِ المساجِدِ، وعدَمُ رفْعِ بِنائِها والتَّطويلِ فيهِ.
ثم نتأمل الحديث الآخر الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم :
عن رواية الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
” لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد”
وفي رواية للنسائي وابن خزيمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
“من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد “
إذا نحن هنا لسنا بصدد رؤى معمارية وتبيانات واجتهادات مهنية تخص عمارة المسجد بقدر كوننا أمام محددات ومعايير شرعية يعتبر الخروج عنها نوع من أنواع المخالفة الصريحة للشرع الحنيف من الدين.
فعلى هذا النهج يصبح النقاش حول “الطرز” المعمارية وعناصر التعبير البصري ، وماهية المفردات والأنساق البنائية والنظم الإنشائية ……إلخ والمرتبطة بعمارة المسجد كونها هي المعايير الأساسية التي تحكم صياغة هذا العنصر الفراغي والمعماري في المدينة الإسلامية ، هو نوع من أنواع الشطط والجنوح عن الجوهر الحقيقي لماهية المسجد حيث جعلت منه نتاج بنائي مثله مثل أي نتاج بنائي آخر لا يخضع إلا لمجموعة من المعايير المادية المنفصلة عن مقاصد ومعايير الشرع الحقيقية، بأكثر منه حيز روحاني يوفر للناس الراحة والطمأنينة ويساعدهم على الخشوع والتدبر في ملكوت الله والتقرب إليه سبحانه وتعالى.
أترككم مع مجموعة من الصور المرفقة لأحد المشروعات التي قدمت سنة 2013 في مسابقة دولية لتصميم المسجد المركزي لمدينة برشتينا عاصمة كوسوفو والتي تعكس كيفية تعامل المصمم مع المسجد كصرح معماري ضخم بأكثر منه حيز روحاني.


فالمصمم قد وجه جل تفكيره نحو “التشكيل” بأكثر من المعنى بل والأدهى أنه ينظر للصلاة كونها “طقس” يؤدى وليست عبادة فيها تسامي للروح وتواصل مع الخالق في خشوع وتبتل فهو يقول في شرح فكرته :
“The project for the Central Mosque of Prishtina derives from the idea to interpret in a contemporary way the mosque’s architecture and to integrate it in the urban context.
By reflecting our time, the mosque assumes traditional, regional and historic forms, abstracted and arranged according to contemporary aesthetics.
We extracted the underlying formative principles of traditional mosques, which are the creative expressions of Islamic culture, and continued (related) them with the benefits of scientific and technological advancement.
We identified the architecture of the mosque as a spatial embodiment of the series of rituals that it accommodates, as well as a representation of the spiritual meaning of those rituals, which transcend their functionality.”
ختاماً أتمنى أن يأتي يوما نقف نحن المعماريون المسلمون وقفة أمينة مع النفس نراجع فيها رؤيتنا ونظرتنا الخاصة بتصاميم المساجد كحيزات تحتضن “عماد الدين” وننقحها وونقيها مما أصابها من شطط أخرجها عن حقيقتها الشرعية مما جعلنا ننصرف عن الجوهر الحقيقي لبيوت الله وننشغل بالتشكيلات والصرعات بأكثر مما ننشغل بالرسالة والدور.
إعمار المساجد أولى من عمارتها
محمد الرافعي، 9 أبريل 2022