النقد المعماري بين التحليل الفني والمناكفة
من يومين قرأت منشور للأستاذ الدكتور عاطف معتمد Atef Moatamed حرك بداخلي خواطر عدة أردت أن أشاركها معكم
بداية يجب أن أعرف بالدكتور عاطف وهو شخص عالي الثقافة موسوعي الشخصية وأقل ما يمكن أن يوصف به إجمالا في الحقيقة أنه شخصية “تنويرية” بامتياز.
لقد كتب في صفحته التالي:
” يقولون إن الناقد مبدع فاشل، وهذا على الأرجح قول بالغ القسوة.
صحيح أن النقاد يطلبون حالة مثالية من جودة الأعمال لدرجة أنهم هم أنفسهم قد لا يستطيعون تقديمها، إلا أنني أحب دوما أن أميز بين نوعين من النقاد:
– محترفو النقد دون ممارسة أية خبرة إبداعية
هؤلاء يمكنهم أن ينتقدوا مثلا صوت أم كلثوم بعد أن اطلعوا على 100 كتاب في فن الغناء والموسيقى، ولكنهم لو جربوا مرة أن يسمعونا أصواتهم في أغنية واحدة لفررنا جميعا إلى الصحراء.
هؤلاء يحترفون النقد ليل نهار، وتتجمع لديهم بالتراكم مهارات النقد من نظريات ومصطلحات وأساليب احترافية عالمية، وغالبا يرحلون عن الدنيا دون أن يعجبهم أحد، أو بالعكس قد ينفقون أعمارهم في مديح بعض المبدعين ويسعدون باقتران اسمهم بهم ويرون كل ما قدموه إبداعا استثنائيا.
ممارسو النقد كجزء من مسيرتهم في العمل والإنتاج
هؤلاء أكثر رحمة وشفقة من النوع الأول في نقد المقصرين وأقل انبهارا وتماهيا في مديح المشهورين. ويحرص هؤلاء عادة على تشجيع الآخرين، والتماس الأعذار لهم، وربما غضوا الطرف عن الأخطاء رغبة منهم في استمرار الناس في العمل. وكأنهم في الحقيقة يتحدثون عن أنفسهم ويتمنون أن يجد الناس لهم عذرا بالمثل.
وبافتراض ثبات كل العوامل الأخرى -من النزاهة والسلامة النفسية – فإنني أفضل دوما الناقد “الممارس” أكثر من الناقد “النظري المحترف”.
حينما قرأت هذا المنشور جلست أفكر في اسقاط هذه الحالة على مهنتنا التي نمارسها “العمارة” وجلست أتأمل حال الكتابات النقدية التي نتلقاها بصورة شبه يومية ممن يقدمون أنفسهم لنا بصفة “ناقد معماري” وعلى الأخص الأكادميين منهم وقفز فورا الى ذهني سؤال جوهري : كم من هؤلاء يمارس العمارة ممارسة حقيقية كمهنة في حياته اليومية؟
هناك من الأكادميين من تقتصر أعمالهم على تدريس العمارة بالمعاهد والكليات وحياتهم تخلو تقريبا من الممارسة الجادة ونادرة هي تجاربهم ذات القيمة التي خاضوها وخاضوا في مرارتها لإنتاج مبان حقيقية يمكن زيارتها والتماس فكرهم من ورائها.
نعلم يقيناً أن النتاج البنائي هو عمل شديد التركيب ينتج من تراكم ضخم من مزيج من القرارات الفنية الهندسية والإدارية والاقتصادية والجمالية ويشارك أطراف متعددة ( كل له خلفيته الثقافية ورؤيته المهنية وأهدافه المعلنة والخفية ) في اتخاذ تلك القرارات بدأ من الفريق المصمم وعلى رأسهم المعماري مرورا بالمالك وانتهاء بالمقاول المسئول عن التنفيذ، ليس ذلك فحسب بل يحيط بهذا النتاج مجموعة كبيرة من الأطر التي لا يمكن اغفالها كالقوانين والتشريعات والمحددات البيئية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية……الخ.
نحن كممارسين للعمارة نعيش يوميا في صراعات مع جميع تلك الأطراف ونتحرك في خلال تلك الأطر والمحددات من أجل الوصول لأفضل ما يمكن أن نرضى عنه مهنيا وإنسانياً ولكننا لا نعزف وحدنا ولا نستطيع أن نقرر بالنيابة عن الآخرين والقرار الأخير لا يكون دائما لنا إلا في حالات خاصة وليس طوال الوقت.
ولذلك أتعجب حقيقة من كيف يمكن لشخص يحتسي القهوة ويجلس في مكتبه المكيف من وراء لوحة مفاتيح أن يصدر حكما على نتاج بنائي من مجرد النظر إلى صورة أو عدة صور وهو لا يعرف شيئا عن كم القرارات التي تراكمت وتسببت في خروج ذلك النتاج، ناهيك عن أن هذا الذي يصف نفسه بال “ناقد” قد لا يكون قد زار هذا المشروع نهائيا ولم يتجول فيه رغما من معرفتنا البديهية بأن العمارة “فن يعاش” أي أنه بدون التجربة الواقعية لا يمكن لأحد الحكم على النتاج المعماري حكما قاطعاً ، فالصور ثنائية الأبعاد هي تعبير عن رؤية من التقطها وتترجم انطباعه عن ما يري أمامه وهذا أمر نسبي يختلف من متلقي لآخر وهذه الصور تعجز تماما عن نقل الصورة الحقيقية ، فالصورة الحقيقية في العمارة هي تعبير مجازي ليس له وجود ويحل محلها “التجربة الحقيقية” والتعايش الحقيقي مع النتاج البنائي والتأثر به والتفاعل معه بجميع الحواس.
أقولها لكم وأتمنى أن أكون مخطئ أننا مع الأسف لا يوجد لدينا في العالم العربي على اتساعه وتعدد ثقافاته ومدارسة المعمارية من يمارس النقد المعماري بمهنية احترافية وتجرد ، ولعل هذه الصفة الأخيرة “التجرد” هي أصعب نقطه لأنها تحتاج لشخصية سوية واثقة في نفسها ولديها اتزان وانضباط نفسي وامتلاء معرفي وثقافي يؤمن بالحوار المتزن الهادئ والتحليل العميق الموضوعي للعمل لإبراز جوانبه المختلفه بعين الخبير وتقديمه للعامة في صورة تحفز على التأمل ورؤية العمل من زاوية مختلفة، فالحرفية صفة يمكن اكتسابها بسهولة من خلال التعلم واكتساب الخبرة أما التجرد فهي صفة ترتبط بطبيعة النفس البشرية ومنظومة القيم والأخلاق التي تحكم الناقد في تحليله للعمل الذي يتناوله ومدى قوته وقدرته على حجب ميوله والتخلي عن ذاتيته و “الأنا ” التي بداخله وتفضيلاته الشخصية عن التأثير في رأيه أي أنه لا يستجيب لهوى النفس وهذا صعب جدا على الشخصيات الضعيفة والنفوس الغير سوية أو المريضة.
مع الأسف ما نراه من ممارسات يحاول البعض أن يدعي بأنها “نقد” هي في الحقيقة إما شخصنة وهجوم على شخص صاحب العمل ومحاولة النيل من صورته وتجريحه والهمز واللمز والإسفاف وذبح للآخر وارهابه معنويا وفكريا أو مديح وإشادة وتهليل وتصفيق وفي كلا الحالتين لا نرى أي نوع من أنواع التحليل المهني أو اي إضافة معرفية تمكنا من الخروج بفائدة إيجابية حقيقية
مرة أخرى أتمنى أن أكون مخطئ وأن يذكر لي أحد من المتابعين اسم ناقد معماري عربي يتمتع بهاتين الصفتين “الاحتراف المهني” و “التجرد”.
لا أريد أن يتصور أحد أنني أنكر فائدة من النقد في التطوير والإرتقاء بالعمل، بل على العكس تماماً فأنا لي تجارب شخصية حقيقية إيجابية مع النقد البناء الإحترافي والذي كنت أعتمد عليه دائما في تطوير تصاميمي. فالعين الثاقبة التي ترى مواطن الضعف وتحللها بصورة منطقية تساعد المبدع في تخطي تلك النقاط بل وتحويلها لنقاط قوة في تحدي للذات. ولكني دائما ما أردد وأكرر وأقول أن العمارة ليست فنا سرياليا من الخطوط المنبتة الصلة بالواقع أو التي ليس لها مبرر حقيقي وموضوعي وأن كل خط يجب وأن يكون وراؤه معنى وبالتالي أتصور أن أي ثمة نقد جاد يمارس في هذا المجال يجب أن يكون مبني على تحليل واقعي للنتاج البنائي يضع في حسبانه كافة الظروف التي أحاطت بالعمل في المشروع وأدت في تطورها إلى خروج ذلك النتاج بهذه الكيفية وهذه الصورة وهي جميعها خبرات قد لا تتوفر من وجهة نظري الشخصية لمن يمارس النقد من المنظور “النظري الأكاديمي” البحت بل هي تحتاج لمن لديه خبرة وتجربة حقيقية من الممارسة المهنية. أي تحتاج إلى “معماري” ممارس وليس إلى “أكاديمي” يدرس نظريات العمارة فقط ولا يمارسها. بخلاف ذلك يتحول النقد من وسيلة للتحليل الموضوعي والمنطقي لفهم جوانب العمل بصورة شاملة إلى صورة من صور “المناكفة” العمياء التي لا تثمر عن شيء سوى إما الذم أو المديح وكلاهما يتم صبهما دون أي منطق حقيقي وغالبا يحركهما مجرد “الهوى” لصاحب فنجان القهوة.
محمد الرافعي ، 1 سبتمبر 2022