…كن أنت القيمة أولاً
تلقيت رسالة من أحد شباب المعماريين التواقين للقيمة وكانت في صورة حوار كالتالي:
هو : السلام عليكم
حضرتك لو أنا عايز اتعلم أساسيات الديزاين واتعلم تصميم صح اخد كورسات معينة !؟ ولا كتب معينة أشوفها ولا أيه بالظبط لان معظم الدراسة عبارة عن قص ولزق واني اشوف حاجة واقلدها ومفيش أى ابتكار ولا أى افادة ؟
أنا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
يا إبني التصميم المعماري هو في الأساس يحتاج إلى موهبة يغذيها فكر وعلم وخبرة، إذا غاب أحد من هذه العناصر يحدث خلل في التصميم فإذا ما غابت الموهبة يفتقد الإبداع وإذا غاب الفكر يفتقد المعنى والرؤية ويصبح التصميم منفصل عن الإنسان والمجتمع وإذا غاب العلم يصبح التصميم محض خيال وهش ومبني على أسس غير سليمة وغير قابل للتنفيذ وإذا غابت الخبرة يصبح التصميم غير واقعي وينتج عن تنفيذه مشاكل حقيقية.
هو : كلامك كلة صح يا دكتورحضرتك تنصحنى بأيه وأبدا إزاى؟
أنا: أنك تغذي كل دعامة من هذه الدعامات ولا توجد وصفة سحرية أقولها لك لتصل لهدفك في خطوة واحدة، ولكن إذا ما فكرت في تلك الدعامات وتحركت في اتجاه تقويتها ستجد نفسك متجها نحو تحقيق هدفك. فالعلم يمكنك تحصيله من مصادر كثيرة وفي فروع شتى والخبرة تأتي بالممارسة المتأنية والتعلم من تجارب الآخرين والفكر ينمو ويتضح عند اتساع الثقافة والقراءة في مجالات مختلفة بخلاف الهندسة وستجد نفسك مع الوقت قد اصبح لديك رؤية ووجهة نظر وموقف خاص من أمور حياتية كثيرة مرتبطة بمجتمعك وستنعكس هذه الرؤية بالتأكيد على تصاميمك.
قد يكون الأصعب هي الموهبة فهذه نعمة ربانية إذا لم تكن موجودة بالكلية فيصعب اكتسابها أما وإن كانت موجودة فيمكن بالتأكيد صقلها بالتجارب المتنوعة.
هو : شاكر جدا لحضرتك يا دكتور وموفق دايما بإذن الله
أنا : العفو وبالتوفيق لك بإذن الله
في الواقع أنني تصلني رسائل خاصة عديدة مثل هذه الرسالة من طلبة يدرسون العمارة في جامعات عربية مختلفة وأخرى من شباب حديث التخرج وتدور معظمها حول : كيف السبيل لنكون معماريين بحق؟ من أين يمكنا البدء؟ بماذا تنصحنا أن نتعلمه أو نقرأه أو نكتسبه من خبرات؟ هل يمكنا أن نتدرب عندك وهل تسمح لنا أن نكون من تلاميذك وأن نعمل معك حتى بدون راتب ؟!!!!
جميعها أسئلة تكشف في معظمها عن احساسهم بوجود فجوة بين ما تلقوه من علوم ومعارف في كلياتهم أو معاهدهم للعمارة وبين الممارسة الصادقة المرتبطة بحلمهم لتحسين واقع مجتمعاتهم وإعادة توجيه البوصلة مرة أخرى لاستعادة الدور الحضاري المفقود في هذا العالم، وهم بأسئلتهم هذه يدركون مشكلة كون التعليم الأكاديمي المعماري بصورته الحالية لديه قصور شديد تجاه تأسيس قواعد صلبة تبنى عليها شخصياتهم المعمارية المحلية!!!!!!
البعض أجيبه في رسائل مطولة وأرسل إليه بعض من الكتب والبعض الآخر أقيم معه حوارا مفتوح وممتد وأحاول قدر ما تسمح به طاقتي ووقتي أن اضع تحت يديه بعض المفاتيح التي تمكنه من سلك الطريق الصحيح لبناء شخصيته المعمارية الخاصة. ولكن أريد في الإجمال أن أقول للجميع أن الجامعة لا يجب أن تكون مكان للتلقين بأكثر منها مكان للتهيئة لأن تكون لديك القدرة على التعلم ذاتيا بالبحث والتجربة واكتساب الخبرة وأن تعلم العمارة لا يرتبط فقط بالعلوم الهندسية وحسب فالمعماري الحقيقي يجب وأن يبنى قواعد شخصيته على معارف في مجالات كثيرة فقراءتك في الأدب والشعر وعلوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين والتفقه في العلوم الشرعية جميعها رغم ظنك بأنها بعيدة الصلة عن العمارة إلا أنها هامة جدا في بناء شخصيتك والتي ستشكل رؤاك وأفكارك وتصوغ روحك وفلسفتك وسوف تنعكس بكل تأكيد على أعمالك وتصاميمك وموقفك من قضايا مجتمعك التي قد يطلب منك التدخل فيها بما يتاح تحت يديك من أدوات مهنية.
لقد تأثرت بعد تخرجي من الجامعة بالشعر الصوفي لمحمد إقبال وانصت بكل جوارحي لأحاديث أستاذنا الفنان حامد سعيد في لقاءات ” جماعة الفن والحياة” في منزله الذي صممه له استاذنا العبقري حسن فتحي بالمرج واستوعبت تماما رؤيته عن كيف كان المصري القديم يشحن إبداعاته بروحه وامتعت عيني بلوحات زوجته الأستاذة إحسان خليل التي زينت بها كتابها الشهير “منطق الطير” وحلقت بفكري مع أستاذنا الفيلسوف زكي نجيب محمود وهو يشرح نظرته عن “سلم المعرفة” ونقيت روحي بدروس الدكتور عمر عبد الكافي وشيخنا محمد الغزالي وهما يربطان الدين بالحياة برؤى فلسفية رائقة وتتبعت ابداعات الفنانين الكبار من بيكار وزكريا الخناني وعايدة عبد الكريم وتعلمت فلسفة الضوء والظلال في السينما على يد استاذنا صلاح مرعي في مرسم الأستاذ الكبير شادي عبد السلام ثم حلقت بفكري مع كتابات استاذنا الكبير عبد الوهاب المسيري وهو يتحدث عن موقفه من العلمانية وتحركت عواطفي مع غناء أحمد منيب وهو يصف حنينه لبيته ذو “الحوش الكبير” في بلاد الذهب “النوبة” ، وتعايشت بكل جوارحي مع قصص استاذنا عبد الوهاب مطاوع والتي جسدت الكثير من قسمات المجتمع المصري وتعرفت على “شخصية مصر” لأستاذنا جلال حمدان، هذه على سبيل المثال وليس الحصر نماذج مما شكل شخصيتي وكما ترون هي ليست معارف أو علوم هندسية بل معارف وخبرات حياتية.
أن قدرتك على فهم وتشرب واستيعاب كل تلك المعارف المرتبطة بمجتمعك ستقيس مدى نجاح واقتراب تصاميمك منه ومدى تعبيرها عن ملامحه وحياته ونظرتك الإيجابية لتطويرها ، فالعمارة تستمد صدقها وأصالتها من معارف وعلوم الحياة بأكملها والتي أصبحت الآن متاحة تحت أناملكم.
ما أدعو أليه هو بناء الفكر الخاص المرتبط ببناء الشخصية بصفة عامة فالإنسان كل متكامل ولا ينتظر من شخص يلجأ للكذب مثلا في حياته كوسيلة للهروب أن ينتج عمارة صادقة كما لا ينتظر من شخص لا يعطي العلم قدره في حياته أن يصنع عمارة منضبطة وآمنه ولا ينتظر من شخص لا يعنى بالدقة والإجادة أن يصنع عمارة ذات قيمة ومتفردة وهكذا.
أنت كيفما تكون كإنسان ستكون عمارتك وتصاميمك.
محمد الرافعي ، 9 يونيو 2023