متى نلفظ هذا الاحتلال الفكري؟
قرأت بالأمس خبر عن تصميم وتنفيذ فندق كبير يحمل علامة “فيرمونت” العالمية في موقع مميز بحدائق أكتوبر (مدينة صن كابيتال !!!!!) ويطل على هضبة الأهرام مباشرة.
الخبر يحتفي بكون التصميم “عالمي” وأن المصمم هو شركة بركنز استيمان الأمريكية، ويتحدث عن حرص المصمم على استخدام خامات محلية من الأحجار والجرانيت المنقول من أسوان بجنوب مصر لإضفاء صبغة محلية على البناء، فبدأ خيالي يرسم صوراً ذهنية عن التصميم والمعالجات البصرية والكتليه التي قد يحتويها، فدفعني الفضول أن أطلع عليه فوراً علني أجد شيئاً مما جال بخيالي، وهنا كانت الصدمة! إذ أنني وجدت تصميماً “لبناء” يتبع النمط الغربي بحذافيره ولا علاقة له بالسياق نهائياً بل ويتنافر اصلاً مع الموقع الصحراوي الذي يحتضنه بواجهات اكتست جميعها بالزجاج في كل العناصر بما فيها أسوار (كوبستات) التراسات الخارجية وهو الأمر الذي ليس فقط سوف يلهب فراغاته الداخلية بحرارة الصيف القائظ الذي يمر ببلادنا، بل أيضاً سوف يفرض ميزانية ضخمة لصيانتها من الغبار -الذي تشهده الصحراء- كي يتم المحافظة على بريقها اللامع الواضح في المنظور الذي صنعه “الأمريكي”!!!!!

تصميم فندق فيرمونت وموقعه المطل على هضبة الأهرام
لقد شعرت حقاً بحالة من الإحباط الشديد ولا سيما وأنني عائد للتو من الرياض حيث شرفت بدعوة بوابة الدرعية لأكون متحدثاً رئيسياً في المهرجان الذي تنظمه سنوياً للأحتفاء بالعمارة والعمران التراثي السعودي، وشاهدت هناك نموذجاً يجسد ببراعة شديدة كيفية توظيف المفردات البصرية والكثير من الأنساق المحلية في العمارة والعمران لتلبية احتياجات معاصرة، وبدأ ذهني على الفور في عقد مقارنة بين ما يحدث في الدرعية وهي المنطقة التي تم تصنيفها كتراث عالمي من قبل اليونيسكو وكيفية التعامل معها وكأنها جوهرة ثمينة قد تم نفض التراب عنها وإظهار قسماتها الجميلة للزائرين مما جعلها نقطة جذب سياحي قوية يسعى الكثيرون لزيارتها من مختلف دول العالم، وبين ما يحدث في هضبة الأهرامات بالجيزة والتي هي ليست فقط درة تاج الآثار المصرية بل هي درة تاج الآثار في العالم أجمع.
لقد فرض علي ذهني أن اقارن بين الفندق الذي استضافتنا فيه بوابة الدرعية وهو فندق “باب سمحان” الذي يدار بعلامة ماريوت ويقع في حرم المنطقة التاريخية بحي الطريف، وبين فندق فيرمونت الجديد الذي يتم إنشاؤه في حرم الأهرامات، والصور تشي فوراً بأن تصميم فندق الدرعية قد حرص تمام الحرص على إعادة الاعتبار للمفردات البصرية النجدية، واستخدام الكثير من الأنساق الخاصة بالعمارة هناك من أحواش داخلية مظلله بالخيام والممرات الضيقة بين الكتل في النسيج المتضام وتغليب نسبة السد على المفتوح بالواجهات الخارجية التي تتضائل فيها المسطحات الزجاجية إلى أقل حد ممكن مع استخدام الوان وملامس من خامات محلية تعكس هوية المكان باحترافية واضحة.

فندق باب سمحان في منطقة الدرعية التاريخية بالرياض
لقد سرح خيالي مرة أخرى وتسائلت لماذا لا نثق في معمارينا العرب على العموم والمصريين على الخصوص؟ فنحن لدينا معماريين على أعلى قدر من الموهبة والخبرة ويستطيعون بكل جدارة أن يخلقوا تصاميم مبدعة لمثل تلك المشروعات وأعمالهم تملاء دول أشقائنا الخليجين وتبرهن على تلك الخبرة والموهبة!!!! لماذا يطل علينا القديس الأشقر دائماً في أخص ما نملك من مواقع فريده ومشروعات هامة؟ وحينما أنا أفكر في هذه الغصة التي أشعر بها فاجأني خطاب وصلني بالبريد الإلكتروني من رئاسة قسم العمارة بأحد أكبر كليات الهندسة المصرية “العربية” يدعوني للإلقاء محاضرة هناك حول كتابي “قصة طوبة” ومسيرتي المهنية في محاولة خلق عمارة صادقة.
الخطاب كتب بصياغة بليغة وفي قمة الاحترام ولكن للصدمة قد كتب باللغة الإنجليزية!!! فعند اطلاعي عليه علمت لماذا نحتفي بالقديس الأشقر دائماً، وأحسست أننا لا نزال محتلون فكرياً حتى رأس المؤسسات التعليمية الوطنية، التي لا ترى في اللغة العربية وسيلة مناسبة للتخاطب والتعبير، فكيف إذا ستخاطب طلبتها لتحثهم على تحري الأبعاد المحلية في العمارة؟ وكيف تطلب منهم تبنى النهج الصادق في في تصاميمهم إذا ما كان الاغتراب الثقافي متجذر في لغة الفكر والخطاب! لا غرو إذا ما كان فكر أصحاب القرار في المشروعات الهامة في بلادنا يتبع نفس ذات النهج ولا مجال إذا للإندهاش من النتيجة، وإذا كنا نريد حقاً أن ننتج عمارتنا الخاصة فعلينا بداية أن نفكر بلغتنا وثقافتنا الخاصة ولنبدأ من الآن.
محمد الرافعي، 13 فبراير 2025