…مدينة الأنسان
نسافر كثيراً ونشاهد بلداناً مختلفة ونعيش في مدن يتهافت الكثيرون منا للعيش فيها كونها كما يحلو للبعض بتسميتها مدن “معاصرة أو حديثة ” ولكن ……..!!!!!
هل نشعر حقاً بالسعادة في تلك المدن ؟
هل حقاً نشعر فيها بالاحتواء والألفة ؟
هل تخاطبنا مبانيها ؟ وتلهمنا طرقاتها وساحاتها ؟؟؟؟
هل هي آمنة بالنسبة لنا ولأطفالنا ؟؟
الحقيقة من وجهة نظري أن معظمنا يعيش في أكبر خدعة وأكذوبة عمرانية صنعتها الرأسمالية في القرن العشرين ألا وهي : ” المدن الحديثة ” بشكلها الحالي الذي نشاهده في كثير من العواصم في أرجاء المعمورة.
تلك الكيانات العمرانية المخيفة ذات النسيج الشبكي الميكانيكي الضخم الذي لا يهدف إلا لمجرد خدمة الإيقاع السريع والمتشنج للحياة الذي يفرضه الفكر الرأس مالي الجشع والذي تترجم من خلاله كافة مظاهر ومعايير الحياة إلى مجرد أرقام تخضع للغة المكسب والخسارة، لا شيء ذو أهمية تذكر بخلاف ” المادة ” في هذه المدن ” البائسة ” حيث يعيش معظمنا في حالة لهاث مستمر وفي حلقات مفرغة لا تنتهي إلى شيء!!!!!
الكل يجري …..الكل ليس لديه أدنى فرصة للتأمل أو التأني والإستمتاع ..!!!!!! أو أن يجد حياة تخاطب وجدانه ويلتمس فيها المعاني ويتأمل فيها ذاته ، طاقاته ، أحلامه ، طموحاته……
هي مدن مكتظة تتكدس فيها البنايات بصورة خانقة لينحشر فيها الناس في بيوت أشبه بقنان الدواجن حيث لا حق إلا في النوم والأكل والعمل!!!!!، فتلك المدن ” المليونية ” هي التطور أو قل التدهور الطبيعي لمدن العمال أبان الثورة الصناعية في القرن الماضي ولكن بصورة ” براقة ” لامعة بسبب حزم من الخدمات الحديثة التي لولاها لأصبحت الحياة بها لا تطاق ولتحولت إلى ما يشبه السجن الكبير. ذلك البريق هو كبريق المعدن المزيف لا تكاد تقترب منه بعقلك حتى تكتشف حقيقته المخادعة وأن هذا الوجه البراق المتلألأ يخفي وراؤه ملامح قبيحة رثة تثير الغثيان والحسرة على حال قاطنيها.
في مثل تلك المدن تجد الكثير من الأشياء المصطنعه والمتصنعة في آن واحد ، وهذا ليس بحالها فقط بل وحال كثير من قاطنيها أيضاً بعد أن صبغتهم بصبغتها !!!!!! ليس هناك ثمة ما يمكن أن تسميه “تلقائية ” أو “عفوية”….كل شيء بدأ من واجهات المباني ، الطرقات ، الحدائق والمتنزهات ، الأسواق…..كل شيء ” مصطنع ” !!! الطبيعة في تلك المدن ضيف ثقيل غير مرحب به والسيارات هي الحاكم الآمر التي تخضع لها الطرقات والجسور لتخترق النسيج وتمزقه وتحيله لمجموعات من الجزر المنعزلة يقطنها “غرباء ” إذا التقى أحدهم جاره الذي يقطن معه بنفس البناية في الطريق قد لا يعرفه لأن الجميع لاهي ويدور في نفس الدوامة.
حينما أتحدث عن المدن “الحديثة” المبهرجة لا أقصد بالتأكيد تلك المدن الأخرى الضخمة المخيفة التي لا أثر فيها للون الأخضر على الإطلاق حيث لا تنجوا الأشجار من قاطعيها ولا أثر لحدائق أو متنزهات عامة أو حتى مجرد أرصفة تصلح لسير المشاه بصورة آمنة ويتراكم فيها التلوث والمخلفات في كل مكان وتجد واجهات البنايات كالحة تحت أطنان التراب والضجيج فيها يصم الآذان …….فهذه لا أسميها “مدن” بل هي في تقديري “مدافن للأحياء ” .
حقاً ، هناك مدن تمنحنا الحياة وأخرى تسلبها منا، الأولى تحيا بداخلنا والثانية فقط نعيش فيها والفارق هائل بين الحياة ومجرد العيش.
لقد أدركتني كل تلك المعاني وأنا أتجول في بلدة ألاشاتي Alaçatı التركية الصغيرة التي لها تاريخ ممتد لقرون ماضية والتي ما أن ولجت في طرقاتها مشياً على قدماي حتى أحسست كمن قد غادر المكان والزمان وأنتقل بروحه إلى “أطلانتس” تلك القارة المفقودة التي تحكى عنها الأسطورة. أو هي كمن خبأ خبيئة في طيات الحياة بعيداً عن سلطان التاريخ فاحتفظت بكثير من ملامحها التي ولدت بها !!!!!
الطرقات ضيقة ومتعرجة معظمها مظلل بأغصان من شجيرات الجهنمية ذات الألوان الزاهية ……هناك لا اثر للسيارات الكل يمشي مطمئناً على قدميه المباني خفيضة من دور واحد أو دورين وجميعها تعزف لحن بصري واحد من مجموعة من المفردات التراثية التي سافرت عبر الزمان ولا تزال تنبض بالحياة.



التفاصيل بسيطة وعفوية تنتقل بك بتلقائية جميله من ركن إلى آخر. الخامات جميعها من المكان والذوق العام يشي بحالة من الوعي بقيم الجمال والطبيعة والنظافة.
المتتابعات البصرية الشيقة لا تنتهي في منظومة عفوية ورشيقة من الطرقات والأزقة تتخللها مفجأت بديعة من الساحات.
لقد تملكتني التجربة حتى اكتشفت أنني تجولت لأكثر من ست ساعات متواصلة دون أدنى شعور بالملل بل على العكس كنت كالطفل الصغير الذي استغرقت شعوره بالكامل حكاية جميلة من حكايات الجنيات والأساطير.
هذه البلدة الصغيرة التي لا يزيد تعدادها عن 12 ألف نسمة هي مثال حي على المعنى الحقيقي لعمارة وعمران الإنسان ومثال حي على أن الأنساق العمرانية والمعمارية التقليدية المتجذرة في المكان يمكنها أن تمنحنا تجارب بصرية وفراغية فريدة لا تستطيع “الحداثة ” أن تقدم ما يضاهيها. وأن العبرة والمحك في النهاية في مدى نجاح وقدرة العمارة والعمران على توفير حياة ملهمة وإيجابية لتنشئة بشراً أسوياء يدركون معاني الخير والجمال والنظافة والعطاء والألفة وتترجم كل تلك المعاني النبيلة في أفعالهم وتفاعلاتهم مع بعضهم البعض ومع البيئة التي يعيشون في جنباتها.
محمد الرافعي، 12 أغسطس 2020