نحن والـ “القديس” الأشقر
أتأمل حالنا نحن المعماريين العرب وأندهش كوننا نسرف كثيراً في التنظير والنقد والتحليل لمعماريي الغرب ولما يصنعونه من عمارة تغزو بلادنا ولما يتبنونه من أفكار ونظريات ورؤى وكأننا رغم انتقادنا لعمارتهم التي يبنونها في بلادنا والتي في كثير من الأحيان لا تناسبنا ولا تتفق مع معطياتنا المحلية بل وقد تتناقض مع ثقافاتنا ومعتقداتنا وبيئتنا…. ، إلا أننا حقيقة “لا نرى ” غيرهم!!!!! ولا نرى بعضنا البعض ، لا نرى محاولات بعضنا لطرح رؤى مغايرة!!!!!
لعلكم تتذكرون بالتأكيد كيف اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالأحاديث والتعليقات بعد قيام نورمان فورستر بإلقاء محاضرة بالجامعة الأمريكية بمصر في الرابع من أبريل 2019 ، وكيف استقبلته الجموع الغفيرة استقبال الفاتحين وكيف تناقل شباب المعماريين العرب في كل مكان على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة للمحاضرة حتى باتت كل كلمة تخرج من فم “السيد فوستر” وكأنها “وحي منزل” الكل يشد أذنيه صاغياً صاغراً لعله لا يفوته حرف مما قال!!!! على الرغم من أن الرجل لم يأتي بجديد لا نعلمه أو تحدث بعض منا بشأنه في مواضع ومواقف عده ، ولكن هو بريق الهالة التي تحيط بالقديس وتجعل كلامه يصل للأذهان دونما أي حجاب وتخرج الكلمات من لسانه كالسيف الذي نختبئ جميعنا خلفه لحماية أفكارنا التي نريد إيصالها بيننا وبين بعضنا !!! ولما لا وهو البطل الأسطوري الذي صنعناه بأيدينا.
ما يدعو للدهشة أن نجوم عمارة الغرب لا يساهمون إلا بنسبة ضئيلة جداً في مشهد العمارة في بلادهم الأم ولا أرى سببا وجيهاً لتبني عمارتهم وتشكيلاتهم بهذه الصورة المسيطرة في مدارس العمارة في بلادنا ، يحضرني حوار دار بيني وبين أستاذ مخضرم في العمارة وله كتابات نقدية في قمة الموضوعية والنفاذ للعمق وهو الدكتور فيصل حميد أستاذ التصميم الحضري بمانشستر ببريطانيا حين قال لي :
” الحقيقة في بريطانيا مثلا معظم الأبنية تبنى باستخدام المواد التقليدية من خشب وطابوق وصخر والى ارتفاع ثلاث طوابق. وأحيانا يدخل الحديد في تقوية الهيكل عند ازدياد الارتفاع. الكونكريت لا يستعمل إلا في الأبنية التجارية الكبيرة والمرتفعة. ولكن نحن فقط منبهرين بمنتج نجوم العمارة وهي حلقة ضيقة جداً من المشهد المعماري الغربي، أي نحن انتقائيين بماذا نريد أن ننبهر. ليتنا ننبهر بالتجارب الإسكانية التي تستخدم المواد المحلية مثل مدينة باوندبري. “
على النقيض لا أحد منا يبالي كثيراً بمحاضرة يلقيها أحدنا هنا أو هناك ، حتى وإن احتوت على فلسفة ورؤية مرتبطة بتجربة محلية تطرح منظومة متكاملة لمعمار متوافق يتعامل بعمق وصدق مع قضايانا المحلية ويتطرق لها بصورة شاملة يتناول بداخلها كافة عناصر المنظومة بدأ بالخامة والصناعة والمجتمع والإنشاء والعمارة والتنمية والبيئة والاقتصاد…..الكل منصهر في بوتقة واحدة.
معمار يرفض التبعية وينادي بإعادة الثقة للذات والبناء على موروث معرفي ضخم ويعالج إشكاليات نئن من وطئتها علينا ليل نهار، ويصف العلاج بالتفصيل ويضع أمامنا خطة طريق واضحة لا لبس فيها ويأخذ في اعتباره امكانياتنا التقنية والاقتصادية والاجتماعية.
ولكن مع الأسف نحن على ما يبدو قد اعتدنا أن لا نستمع إلا إلى أصحاب العيون الزرقاء والشعر الشقر فقط!!!! ولا نعترف بمن يخرج من بيننا ولا نصغي له !!!!! نحن تعودنا على الانسياق وراء الركب ولا نرى كيف يقوم الغرب “بتلميع” نجومه واحاطتهم بهالة تبهر أبنائنا. والمدهش أن الغرب نفسه احياناً يفاجئنا بوجود ناجحين وسطنا أو خرجوا من بيننا بل وأحياناً كثيرة نراه ينسب الفضل لهم على الرغم من أن ابصارنا لا تراهم وبصيرتنا تتعامى عن انجازاتهم.
أتذكر بقوة أن حضرت سيمينار وورشة عمل حول تقنيات البناء المتوافقة والبناء بالتربة الطينية وتحدث فيه مجموعات كبيرة من محاضرين غربيين من ألمانيا وفرنسا ينتمون لأكبر الجامعات والأكاديميات المتخصصة في المجال وكان من الرائع أن نرى الجميع يضع صورة المعماري المصري العبقري حسن فتحي رحمه الله في أول شريحة يعرضونها ثم يصرحون إلينا بكل تواضع وتقدير بأنهم قد بنوا أبحاثهم وانجازاتهم على ما قد توصل إليه هذا العملاق الراحل “حسن فتحي” ، بالتأكيد كانت تعترينا حالة من النشوة والشعور بالفخر، ولكن أحداً من الحاضرين من حولي لم يخطر بباله أنه يمكنه أن يفعل مثل ما فعله هؤلاء في مناسبة كتلك وعلى الملأ ولا أدري لماذا !!!!!.
لعله نوع من أنواع الانسحاق ؟؟؟ ربما !!! أو نوع من أنواع الإحساس المزمن بالعجز ؟؟؟ أو نوع من أنواع الغيرة المهنية والتصور الخاطئ بأننا إن دعمنا الناجحين من بيننا سنخسر فرصتنا في أن نصير مثلهم وبالتالي اتخذنا قرارا ضمنياً بيننا أن لا نسمح ببروز أحداً بيننا وأن القداسة لا تكون إلا للـ “الأشقر” وحسب.
أقتبس هنا عبارة نقلتها عن أحد الأصدقاء قد سمعها من البوفيسور أوزجور اديز رئيس قسم العمارة جامعة أولوداغ في بورصه بتركيا حيث يقول : “الغربيون يعطسون, ثم يشفون, وبعد زمن طويل تأتينا العطسة فيصيبنا المرض فنظنه الشفاء نظرا لمقدمه من الغرب, فنتمسك بالمرض ونرفض الشفاء.”
لا أحد منا يطيب خاطره بأن يتناول أو يحلل وينقد بعمق لعمل أو جهد قدمه معماري “عربي” !!!!! ، والنقد يختلف جذرياً عن المدح أو القدح على الملأ ، فالنقد مبني على فكرة الاستيعاب والنفاذ إلى المضمون وتقييمه وتحليله وإبراز خصائصه سلباً أو إيجاباً والتفاعل مع مكوناته وذلك بالطرح في الاطار العام والمشاركة فيه كوعي جمعي يخلق حراكاً إيجابياً.
النقد الموضوعي المبني على أسس علمية ورؤية واضحة لطبيعة الموضوع هو أحد أهم ركائز التقدم وبناء الزخم المعرفي لدى المجتمع في مجال ما واستغرب كثيرا بأن يكون غاية ما يمكن للبعض من أصحاب النفوس السوية القيام به هو التصريح بالمديح وحسب في الغرف المغلقة ولا أحد يبادر أبداً إلا نادرا بأن يصرح بما جال بخاطره علانية أو في إطار عام وإن فعل فهي مرة واحدة وقد لا تتكرر ولا يتوفر لها التناول الاحترافي ولا العزم على الاستمرارية لبلوغ الهدف. وكأن الكل قد ارتاح واستسلم لفكرة أن لدينا جدب فكري وأننا ليس بيننا ولا بين أيدينا ما يستحق لأن يتم البناء عليه وتطويره واتاحته ليكون قدوة لشباب معمارينا. الكل يضن بمجرد أن يساند أو يدعم أو يحي جهد من أخلص منا العمل.
نحن ومع كل الأسف لم نتعلم وحتى اللحظة من أخطاء الماضي حينما قال أجدادنا “العود في أرضه نوع من الحطب” وأن ” زمار الحي لا يطرب ” ، فالننتظر حتى يأتينا الرجل الأشقر مرات ومرات ليتفضل علينا بما كان يردده بين
ظهرانينا المخلصين منا.

محمد الرافعي ، 1 أبريل 2020