هل العمارة سلعة..؟
تساؤل أثير في ذهني حينما استمعت لنقاش اثنين من المعماريين الأكادميين وكان أحدهم يتحدث عن الطراز المعماري لأحد المباني ويتسائل مستنكراً كيف يتقبل الجمهور مبنى بهذا الطراز !!!! فجائت الإجابة على لسان محدثه ليقول العبارة الشهيرة التي صدمتني : ” لو أتفقت الأذواق لبارت السلع ..” !!!!!!!!!
جلست أفكر في ما وراء الكلمة وتسائلت : هل فعلاً تم تسليع العمارة أي تحويلها إلى سلعة تخضع لقانون العرض والطلب والمكسب والخسارة ؟؟
قبل أن أجيب عن هذا التساؤل سأشرد قليلاً في عالمنا الذي نعيشه الآن وسأطرح سؤالاً آخر قد يكون أشد قسوة : ما الذي نجا من “التسليع” في حياتنا؟
في عالم اليوم مع عظيم الأسف كل شيء تقريباً أصبح متاح لأن يصبح سلعة، المرأة أصبحت “سلعة” تستغلها شركات الدعاية والإعلان، الأطفال بمختلف أعمارهم حتى الرضع منهم لم يسلموا من ذات الأمر ، جسد الإنسان “سلعة” حينما تباع أعضاؤه ، المرض والألم أصبح “سلعة” تتاجر بها شركات الأدوية ، الأمر تمادى حتى وصل لتفاصيل حياتنا الشخصية التي أصبحت “سلعة” تتاجر بها برامج الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي……..لماذا إذاً ستكون العمارة استثناء من ذلك كله.
في الزمن القديم وقبل اختراع الآلة وقبل الثورة الصناعية كان الكل يعمل بيديه، الكل ينتج، الكل يجد فرصته في الإبداع وتحقيق الذات وكذلك في العمارة كانت عمليات البناء متاحة للأفراد، صحيح كان هناك معلمين وبناؤون محترفون ولكن الأمر لم يكن به أسرار كهنوتيه وممارسة إحترافية كالتي نعايشها الآن. لقد كانت ممارسة البناء شديدة القرب من مدارك العامة ولا سيما فيما يخص حياتهم البسيطة بعيداً عن المباني الرسمية أو المباني ذات الطبيعة الخاصة. على الأقل كان الأفراد يملكون القدرة على أن يساهموا في بناء بيوتهم بأنفسهم. كانت الخامات والأدوات تحت أقدام الجميع والدراية بخواصها ومهارات التعامل معها تتوارثها الأجيال جيلاً من بعد جيل في تراث شفاهي لا يحتاج لأن يدون بكافة تفاصيله. دائرة الممارسة كانت متسعة حتى وإن كان هناك البعض ممن يحتكر المعرفة إلا أنه إحتكار لا يؤثر كثيراً في حياة الجماهير العريضة.
عودة إلى “تسليع” العمارة، ألا نشهد الآن حالات من الإحتكار تقوم بها كيانات معمارية ضخمة وعابرة للقارات؟ هذه الكيانات الرأسمالية الكبيرة يدعمها مبدأ “الإنتاج بالجملة”، فالمشاريع التي تطرحها الحكومات والشركات في معظمها مشاريع ضخمة تدار بفكر رأسمالي لا يؤمن بالنمو الطبيعي للعمران ولكن يؤمن فقط بالهيمنة الفوقية، وهو بالتأكيد لا يرغب في أي ملامح فردية أو حتى أنساق ترتبط بالمكان بصورة أو بأخرى فهذا عكس القوالب النمطية التي يتبناها كمنهج أساسي للإنتاج بالجملة المربح !!!. هذه الكيانات تضغط شيئاً فشيئاً على استديوهات التصميم والمصممين الأفراد وتقطع الطريق أمامهم لتستحوذ على النسبة الأعظم من المشروعات. الأمر مشابه تماماً لما تقوم به سلاسل الهايبر ماركت مع محال البقالة وسلاسل مصانع الألبان مع منتجي وموزعي الألبان الأفراد، هذه هي قوانين الرأسمالية الشرسة إذ لا مجال للتنوع الذي يحدثه الأفراد ، الكل يجب أن يعمل كترس داخل الآلات الضخمة التي تنتج قوالب نمطية بالجملة.
نحن أمام أحياء بل مدن جديدة ضخمة تظهر فجأة وسط نسيج عمراننا بمخططات فوقية تنتجها تلك الكيانات بأسلوب الإنتاج الصناعي حيث اللأبعاد الثقافية أو الإنسانية هي محض رومانسية لا يلتفت لها أحد!!!!. فهذه الكيانات لا ترى أحمد أو حسن أو محمد ولا تريد أن تعلم شيئاً عن العلاقات الاجتماعية التي قد تربط بيننا فنحن جميعا بالنسبة لها أعداد يراد تسكينهم أو تشغيلهم……وقطع الأراضي التي تصمم عليها مشاريعها هي بالنسبة لها مساحات خاوية صماء منبتة الصلة عن أي بعد يحكم التصميم أو يوجهه ، وقد يكون من باب ذر الرماد في العيون أن يتم دراسة الأبعاد المناخية وحسب وبصورة سطحية كمحاولة للتجمل لا أكثر.
المدهش أن البعض منا يمجد أصحاب هذه الكيانات “الشركات” ويصفهم بنجوم العمارة الدولية ، فبتنا نشاهد صور من صور “الماركات” العالمية في العمارة ، لا تهم الجودة ، لا تهم التفاصيل ، لا تهم الملائمة ……المهم “الماركة”.
هذا الوضع لم يضر فقط بالنطاقات الشاسعة من عمراننا والتي باتت حكراً لهم ولكن أفرز أيضاً صوراً مشوهة للمارسة على مستوى المصممين الأفراد فنحن أمام حالة أصبحت سائدة للمعماري الفرد الذي يدور في فلك أصحاب رأس المال ويخدم شريحة النصف في المئة فقط ونتاجه غالباً ما يخضع لقانون العرض والطلب ونزعات وهوس التشكيل بحسب “الموضة” !!!! فهو بالتأكيد لا يريد أن يخسر عمله الشحيح الذي يتكسب منه.
في تقديري أننا نحن المعماريون أصحاب الياقات البيضاء قد ارتكبنا جرماً كبيرا في حق الجماهير العريضة حينما انتزعنا من الناس مهاراتهم وطرقهم التقليدية في البناء ثم انصرفنا عنهم لنقدم خدماتنا المهنية حصراً لأصحاب رأس المال وتركنا الجمهور العريض للعشوائية. ولم نكتفي بذلك بل وأفسدنا عليهم طرقهم حينما قررنا من خلال تصاميمنا أن نشيع خطأً بأنه لا توجد تقنيات ولا مواد بناء سوى التي نستخدمها نحن فقط والتي هي في الأساس معظمها منقول من مجتمعات غربية حتى وإن قمنا بتصنيعها محلياً. لقد حصرنا أنفسنا في أنماط بناء محددة وليتنا قدمناها بصورة ناجحة بل مع الأسف البعض منا شوهها بسبب خضوعه لرغبة “الزبون”.!!!!!!! وانكفأ كل منا يكرر نفس هذه الأنماط بدون أي مراجعة للنفس للبحث عن بدائل أخرى أقرب لحياة الناس ، ولماذا نهتم بالنا
س فجميعنا نجري على لقمة عيشنا !!!!!!!!!!!!
لذلك دائما ما أكرر بأن ما ننتجه في بلادنا هو في معظمه ليس بـ “عمارة” بل هو مجرد “بناء”، بعد أن أصبح في غالب الأمر يخضع لمعايير صناعية بأكثر من التزامه بالقيم الإنسانية.
من المثير للدهشة أن أصبحت التشكيلات والتقنيات والمواد هي هدف يرتجى لذاته في معظم التصاميم، وإذا ما حاول البعض منا أن يكون أكثر عمقاً نسبياً تجده أولى اهتماماً بقضايا توفير الطاقة والمخلفات وحسب!!!! أين الناس ؟ أين ما يخص ثقافتهم ، هويتهم ، تفردهم ؟؟؟ أحيانا تجد إجابات متحذلقة متفلسفة لا تمت للواقع الذي سيفرضه التصميم نهائياً وكأن على مستخدمي التصميم أن يحفظوا هذه النصوص المتحذلقة ويرددوها صباحاً ومساءً مع أنفسهم ليقتنعوا بأنها حقيقة وواقع حتى وإن لم يعيشوها فعلاً.!!!!!
مع الأسف لقد انفصلنا تماماً عن القاعدة العريضة لمجتمعاتنا وبعضنا أصابه الهوس بالممارسات والتقنيات الحديثة والتي تعمق ليس فقط من تهميش “الناس” بل وجميع العاملين في مجال البناء فعلى سبيل المثال حينما ستسيطر أدوات الطباعة الثلاثية في المستقبل سيصبح لا وجود لمسمى عامل بناء بل وقد يتطور الأمر ليصبح لا قيمة لوجود المعماري نفسه!!!
لا شك حينما تتحول العمارة إلى “سلعة” يصبح نتاجها البنائي مجرد “موضه” والمعيار الوحيد البارز فيه هو “الشكل” !!
في وقت من الأوقات نجحنا وبجدارة مع الأسف في تدمير بيئتنا الطبيعية حتى تدهورت بقع كثيرة من كوكبنا بسبب ممارساتنا الخاطئة والحمد لله أننا بدأنا نفيق نسبيا وبدأت منذ عقود مبادرات تصحيح المسار في العالم المتقدم………. ولكن من يصحح مسار تدمير بيئتنا الإنسانية التي نغفل عنها لأننا لا نراها ولا نلمسها من يصحح مسار تدمير منظوماتنا الثقافية والأخلاقية والنفسية التي شوهتها ممارساتنا الخاطئة وساهمت “عمارتنا” المعاصرة في ذلك؟
منذ حوالي ثمانية عقود مضت كانت هناك محاولات ودعوات لمد الجسور التي أنقطعت بين الممارسات الشعبية والبناء المعاصر والأن أما وقد مرت كل هذه العقود وجرت في النهر مياه كثيرة لقد تعقد الأمر كثيراً وأصبحت مهمتنا نحن المعماريين اشد صعوبة لأننا لسنا فقط مطالبين بمد الجسور بل بالبحث أسفل الأنقاض لنجد الركائز الأصلية لمجتمعاتنا والتي شوهتها وغطتها “المدنية ” الزائفة حتى نستطيع أن نقيم تلك الجسور.
لقد اتسعت الهوة وفقدت مجتمعاتنا الثقة في نفسها وفي قدرتها على إنتاج عمارة حقيقية تنتمي للمكان ولا تخضع لقانون العرض والطلب المعولم. وبات علينا نحن المعماريون واجب وأمانة أن نقف وقفة جادة مع النفس نراجع فيها ممارساتنا ونبحث بصورة أمينة وصادقة مع النفس في كيفية إعادة بناء تلك الجسور ودعم أنماط بناء مغايرة للسائدة حالياً. يجب أن لا نخشى التجربة حتى وإن جانبنا الصواب في البدايات ويجب وأن لا نلتفت لتلك الدعوات التي تحاول أن تثبط من عزمنا بدعوى أننا بذلك “نعود للوراء” وبأن الحداثة أمر حتمي علينا الرضوخ له.
أذكر نفسي واذكركم بأن الحداثة هي في صلب جوهرها أن نصنع عمارة تلتقي مع فكرنا الحديث واحتياجاتنا المعاصرة ولكنها ابداً لا يجب وأن تتعارض مع حقيقة : من نحن ومن اين نشأنا، ومن نكون.
محمد الرافعي 10 يناير 2020