المسجد ..القضية (6) – المسجد الأولى بعدم الإسراف

هذه هي القضية الأخيرة في سلسلة المقالات التي نشرتها بخصوص تصميم المساجد والتي أدعو الله عز وجل أن تعم فائدتها وأن تثمر وعياً أفضل لدى المصممين في هذا المضمار وأن يتقبلها مني كزكاة علم لعلها تنفعني عند لقاؤه سبحانه وتعالى.
كما وقد ذكرت في أول مقال لي في هذه السلسة أن الأصل في بناء وإعمار المساجد هو البساطة والبعد تماماً عن التكلف والإسراف. فنحن بصدد بناء بيت من بيوت الله وأولى بنا أن نجتهد في تحرى الضوابط الشرعية في تصميمه قدر ما نستطيع.
والحفاظ على أموال المسلمين هو أحد أهداف الشرع الحنيف والإسراف فيه أمر غير مبرر ويناقض ما نحن مأمورين به. والبذخ والإسراف في حالتنا هذه لهم صور كثيرة منها ما هو متعلق بتكلفة البناء في حد ذاته ومنها ما هو متعلق بتشغيل المبنى.
في هذا المقال سنتعرض لما اجتهدنا فيه بخصوص تكلفة التشغيل ولا سيما في استهلاك الطاقة لما لها من النصيب الأكبر في هذا الأمر، ولما يشكله هذا الموضوع من أهمية تزداد يوما من بعد يوم بسبب ازدياد تكلفة الحصول عليها وتأثيراتها على استدامة العمران.

في مبنى المسجد هناك استخدامين أساسيين يستنزفان الطاقة بشكل كبير ألا وهما التكييف والإضاءة، وما يستهلكه الأول أكبر بكثير مما يستهلكه الثاني نظراً لطبيعة المناخ الحار في بلادنا العربية بصفة عامة وفي مشروعنا هذا بصفة خاصة، فضلاً عن ضخامة حجم البناء كونه المسجد الجامع بالمدينة.

استناداً إلى ظهور اللمبات “الليد” الموفرة للطاقة والتي أصبحت في متناول يد الجميع والتي تحقق وفراً مذهلا في استهلاك الطاقة مصحوباً بعمر افتراضي طويل الأجل، إضافة إلى ما سبق أن وضحناه في حرصنا الشديد على أن نغمر المسجد من الداخل بضوء النهار الطبيعي سعياً وراء تلبية احتياج نفسي وروحاني فندناه في سياقه أنفاً، فلا شيء يدعو للقلق من استهلاك هذا الاستخدام للطاقة الكهربائية.

إذاً يتبقى لنا أن نتحدث عن الاستخدام الآخر وهو: التكييف، أو بمعنى أدق حسبما أفضل أن أسميه: “منظومة الراحة الحرارية داخل المبنى”. نعم هي في الواقع منظومة من عدة عناصر متكاملة مع بعضها البعض ومع الأسف كثير من المعماريين يتجاهلون معظمها ولا يتعرضوا سوى لواحد أو أثنين من عناصرها بالتصميم ويهملوا باقي العناصر.

فعناصر منظومة الراحة الحرارية وحسب رؤيتي لها هي كالتالي:

التوجيه الصحيح للفتحات وحمايتها من الحمل الحراري الخارجي.

دراسة حركة الهواء داخل المبنى.

نسبة مسطح الفتحات الى الحوائط المصمتة.

مواصفات الأداء الحراري لمواد البناء والإنهاء.

تنسيق الموقع العام واللاندسكيب المحيط بالمبنى.

معالجة الواجهة الخامسة “السطح”.

ارتفاعات الفراغات الداخلية.

دراسة كيفية تصريف الحرارة الزائدة بالداخل.

عناصر التبريد والتهوية المنخفضة في استهلاك الطاقة.

عناصر التبريد والتهوية الكثيفة في استهلاك الطاقة.

هذه العناصر تتكامل سوياً في تحقيق الراحة الحرارية داخل المبنى ودائما ما اعتمد في تصميماتي على استراتيجية أساسية طورتها عبر السنين للتعامل معها خلال التصميم تتلخص في تقسيم السنة إلى ثلاث نطاقات حرارية كالتالي

النطاق الأول – التصميم الواعي: في هذا النطاق يكون المناخ معتدلاً بصورة كبيرة بحيث يكفي فقط أن يراعى التصميم المعماري عناصر منظومة الراحة الحرارية المذكورة أعلاه من رقم 1 إلى رقم 8 وهي ما أطلق عليها: عناصر التصميم الواعي للطاقات الطبيعية، فتتحقق راحة حرارية داخل المبنى بدون استهلاك أي طاقة تذكر على الإطلاق.

النطاق الثاني – استخدام التقنيات البسيطة : في هذا النطاق يكون المناخ غير ملائم نسبياً كأن يكون حار أو بارد نسبياً وفي هذه الحالة أضطر لاستخدام وتوظيف بعض التقنيات البسيطة كوضع نظام تبريد بالتبخير مستغلاً الهواء الحار الجاف مثلاً ” التكييف الصحراوي ” أو بتحريك الهواء عن طريق مراوح كهربائية أو بخلق مناطق فرق ضغط باستخدام ” المدخنة الشمسية ” وهي جميعاً حلول لا تستهلك الكثير من الطاقة وتحدث اثراً جيداً في تحقيق الراحة الحرارية الداخلية في هذا النطاق.

النطاق الثالث – التقنيات كثيفة الطاقة : في هذا النطاق يكون المناخ متطرفاً لحد كبير إما شديد الحرارة أو شديد البرودة وبالصورة التي لا تفلح معه عناصر التصميم الطبيعي والتقنيات المتوسطة وبالتالي يكون لا مفر من استخدام الوسائل الميكانيكية كثيفة الاستهلاك للطاقة ، ولكن ونحن نلجأ إليها كحل أخير نكون قد قلصنا استخدامنا لها إلى أقصى حد ممكن سواء من حيث كثافة الأحمال في ظل وجود عناصر التصميم الطبيعي أو من حيث المدى الزمني حيث حصرنا هذا الاستخدام في أضيق نطاق زمني ممكن.
وبتطبيق هذه الإستراتيجية على تصميمنا لمشروع المسجد الكبير في العيينة ، فقد اجتهدنا في التالي:

النطاق الأول – المسجد له واجهات أربع، ثلاث منها تحتوي على فتحات كبيرة كما كنا قد ذكرنا سابقاً لغرض تعظيم الإضاءة الطبيعية أما الواجهة الرابعة وهي واجهة المحراب فهي لا تحتوي على أي فتحات على الإطلاق ولحماية الفتحات الموجودة بالواجهات الثلاث من الحمل الحراري الناتج عن أشعة الشمس المباشرة قمنا بإحاطتها جميعاً برواق عريض مغطى يوفر منطقة مظللة تحمي الفتحات وتخفف من حدة الإضاءة المباشرة. وبخلاف تلك الفتحات المحمية فالمبنى تغلب عليه الحوائط المصمتة والسد أكثر من المفتوح.

لقد اخترنا أن تكون جميع الجدران الخارجية مبنية بأسلوب الحوائط المزدوجة والمعزولة ووظفنا الكسوة الخارجية من حجر الرياض لتساعد في خفض الحمل الحراري بسبب المسافات البينية التي تتخلل قطع الأحجار بعضها البعض وإمكانية تغلغل الهواء للمسافة الفاصلة بينها وبين الجدران والناتجة عن أسلوب التركيب الميكانيكي للكسوة.

لقد وظفنا عدة عوامل مجتمعة لتعمل سوياً على توفير ظلال بسطح البناء، فالكتل المتغيرة الارتفاعات ، وسترة السطح التي بالغنا في ارتفاعها في بعض المناطق، ووضع معدات التكييف المنتشرة أعلى السطح جميعها ساهم في توفير تلك الظلال على السطح.

النطاق الثاني – نظراً لما يتصف به المناخ في الموقع من شدة جفاف الهواء الحار فقد وضعنا نصب أعينا أن نستفيد ونوظف ذات التقنية التقليدية التي كان يستخدمها الأجداد ولكن بصورة محدثة ، فقد صممنا منظومة للتهوية والتبريد تعمل بتقنية البخر بنظام شبيه تماماً بالمكيفات الصحراوية ولكنها أكبر حجماً ، حيث قمنا بوضع عدد 10 أبراج هواء موزعة على ثلاث أضلاع للمبنى ، وحرصنا في توزيعها أن لا يتسبب الهواء الخارج منها أي إزعاج للمصلين فرفعنا منسوبها ووضعناها في المسقط أعلى الممرات الجانبية لقاعة الصلاة. تلك الأبراج كان من المفترض أن تحتوي بداخلها على مراوح شفط ومسطحات تبخير كبيرة تصنع خصيصاً للمسجد بحيث يمكنها ضخ هواء رطب وبارد نسبياً في الأوقات التي تكون الحرارة فيها ليست مرتفعة كثيراً. ونظراً لأن مثل تلك الأبراج تولد ضغط هواء داخلي كبير فقد وضعنا مصفوفة من الفتحات العلوية في الكتلة التي تسمح بتسريب الهواء الساخن وتخفف الضغط الناشيء عن تلك الأبراج. مع الأسف تردد ممثل المالك في الحماس للفكرة أثناء التنفيذ وقرر إلغائها في آخر لحظة وتحولت تلك الأبراج إلى ما يشبه “ملاقف النور” بسبب تفريغها من أنظمة التبخير.

النطاق الثالث – في بناء بهذا الحجم يكون حمل التكييف مرتفع كثيراً ولا سيما وأن هناك عدد ضخم من المصلين سيستخدمون المكان فضلاً عن كون الفراغ الداخلي به ارتفاعات كبيرة للأسقف، وكل ذلك يزيد من الأحمال الحرارية، وفي مثل تلك الظروف تكون الحلول التقليدية محصورة إما في اللجوء إلى استخدام تقنية المياه الباردة ذات الكلفة الباهظة أو وضع ماكينات ضخمة على سطح المبنى وعمل مجموعة من التمديدات الطويلة لمجاري الهواء، وكلا الحلين غير مناسبين لرؤيتنا التي سبق ووضحناها. وعليه كان من المطلوب أن نفكر بصورة غير تقليدية في نظام بسيط وغير مكلف ويوفر في استهلاك الطاقة، وجاء الحل مستلهماً لحد بعيد بما هو مطبق في المسجد الحرام حيث قررنا توظيف الأعمدة الداخلية بقاعة الصلاة لنضع على رأس كل عامود جهاز تكييف منفصل وليحتوي جسد العامود الواحد على مجرى للهواء ينتهي بفتحة لخروج الهواء البارد ومن خلال فتحة موجودة بجسم العقد المجاور لتلك العامود يعود الهواء الساخن للماكينة مرة أخرى وبذلك حققنا مجموعة من الإيجابيات حيث فتتنا حمل التكييف الضخم ووزعناه على مجموعة كبيرة من الأجهزة المتوسطة الحجم وهذا الأمر مكنا من تحقيق مرونة عالية في تشغيل المبنى فأصبح ليس من الضروري ان تعمل جميع الأجهزة في توقيت واحد مثلاً. على الجانب الأخر تمكنا من تركيز الهواء البارد عند الارتفاع المناسب للاستخدام وهو في حدود 2 متر فوق أرضية المسجد. ووفر هذا الحل تكاليف عمل سقف جبسي بمساحة ضخمة ووفر في أطوال دكتات التكييف نفسها والمسافات التي يتحركها الهواء من وإلى الماكينات وبالتالي خفض الاستهلاك العام للكهرباء اللازمة للتشغيل.

ختاماً وبعد ما استعرضناه خلال هذه السلسلة من المقالات أتمنى أن يكون قد تأكد لدى المتابعين ما قد ذكرته في البداية من أن ” العمارة ليست خطوط سريالية ” وأن المعماري ليس مطلق اليدين ليصنع تشكيلات فاقدة المعنى لمجرد أنه يرى أنها ترضي غروره ونزعته لتمجيد الذات وأن العمارة الحقيقية هي التي يكون فيها كل خط له معنى ويحمل رؤية، حتى وإن كان المعنى جمالي وتشكيلي ولكن في حدود المعقول والمنطقي.

مرة أخيرة أؤكد على أن ما طرحته في هذه السلسة لا يشكل حلولاً للقضايا بأكثر من كونه يوضح نموذجاً لكيفية تناولها والتعامل معها ولعله يكون هناك من يكون أكثر توفيقا في اتباع نهج آخر والوصول إلى حلول أنجح فالعبرة في النهاية بأن لا نتوقف عن التفكير في قضايا البناء بمختلف أنواعها والمثابرة على التعامل معها معمارياً وعمرانياً بوعي تام

في الختام لقد جمعت المقالات الست التي تانولت فيها هذا الموضوع ووضعتهم في ورقة بحثية كنت قد شاركت بها كمتحدث رئيسي في المؤتمر الدولي الخامس (معماريات ) بعنوان : عمارة المسجد ، الشكل والمعنى – كلية العمارة ، جامعة عفت _ جدة _ 23/ 24 فبراير 2021 ويمكن تحميلها من خلال هذا الرابط

https://www.academia.edu/52329946/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AC%D8%AF_%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7_%D8%AA%D8%B5%D9%85%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D8%A9

محمد الرافعي ، 16 يناير 2020

 

 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة- المقال الخامس

  المسجد ..القضية (5) – لهجة أهل المكان. هذه القضية لا تنسحب على تصميم المسجد فحسب، ولكنها تسري على تصميم أي مبنى عام. لا يستطيع أحد إنكار ما تعيشه العمارة في عالمنا العربي من محنة لها مظاهر عدة، فالنتاج البنائي لتلك العمارة يعيش حالة من فقدان “الذات” ، فقدان الهوية،…

المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة- المقال الرابع

  المسجد ..القضية (4) – نظرة جديدة لمفرداتنا التراثية بداية وقبل أن أدلف إلى شرح القضية الرابعة أود أن أذكر المتابعين الفضلاء بأن ما أقوم بنشره هو محض تجربتنا الخاصة في تصميم المسجد وأنني قصدت من وراء هذا الشرح أمران الأمر الأول –  تعميم الفائدة وتقديم ما توصلنا إليه من…

المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة- المقال الثالث

  المسجد ..القضية (3) – أين انشراح الصدر؟ كثيرا ما نرتاد مساجد لنصلي بها فنجد أنفسنا وقد أحاطت بنا حالة عظيمة من إنشراح الصدر وإحساس غامر بسكينة النفس وطمأنينة القلب والروح حتى نتمنى لو لا نغادرها ونبقى بها حتى آخر العمر، وعلى العكس من ذلك كم من مرة مع الأسف…

المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة- المقال الثاني

  المسجد ..القضية (2) – النساء لا شأن لنا بهم هذا هو المقال الثاني ضمن عرض القضايا التي تناولناها في تصميم المسجد الجامع في مدينة العيينة هذه القضية من منظورنا الخاص هي في غاية الأهمية ومع عظيم الأسف يتم تجاهلها سواء عن عمد أو إهمال في معظم تصميمات المساجد المعاصرة،…

المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة- المقال الأول

  المسجد ، قضايا تصميمية معاصرة العمارة ليست خطوط سريالية وليست موضة تتغير وتتبدل وفق الهوى، العمارة الحقيقية هي التي تنجح في احتواء البشر ماديا ومعنويا فتعكس جذور ثقافتهم وتدعمها وتؤكد هويتهم وتقويها وتستجيب لتطلعاتهم في تماهي تام مع المحيط والبيئة الطبيعية، فنحن خلقنا للإعمار وليس للدمار على حساب البيئة…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP