…العمارة في ميزان العرض والطلب

 
 
في عالم اليوم ومع تسارع ظهور التطبيقات الحديثة التي تنحي الأبعاد الإنسانية جانبا وتعمق من التوجه المادي مع الأسف كل شيء تقريباً أصبح متاح لأن يصبح سلعة، المرأة أصبحت “سلعة” تستغلها شركات الدعاية والإعلان، الأطفال بمختلف أعمارهم حتى الرضع منهم لم يسلموا من ذات الأمر ، جسد الإنسان “سلعة” حينما تباع أعضاؤه ، المرض والألم أصبح “سلعة” تتاجر بها شركات الأدوية ، الأمر تمادى حتى وصل لتفاصيل حياتنا الشخصية التي أصبحت “سلعة” تتاجر بها برامج الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي……..لماذا إذاً ستكون العمارة استثناء من ذلك كله.
في الزمن القديم وقبل اختراع الآلة وقبل الثورة الصناعية كان الكل يعمل بيديه، الكل ينتج، الكل يجد فرصته في الإبداع وتحقيق الذات وكذلك في العمارة كانت عمليات البناء متاحة للأفراد، صحيح كان هناك معلمين وبناؤون محترفون ولكن الأمر لم يكن به أسرار كهنوتيه وممارسة إحترافية تسيطر عليها الوسائط المادية كالتي نعايشها الآن. لقد كانت ممارسة البناء شديدة القرب من مدارك العامة ولا سيما فيما يخص حياتهم البسيطة بعيداً عن المباني الرسمية أو المباني ذات الطبيعة الخاصة. على الأقل كان الأفراد يملكون القدرة على أن يساهموا في بناء بيوتهم بأنفسهم. كانت الخامات والأدوات تحت أقدام الجميع والدراية بخواصها ومهارات التعامل معها تتوارثها الأجيال جيلاً من بعد جيل في تراث شفاهي لا يحتاج لأن يدون بكافة تفاصيله. دائرة الممارسة كانت متسعة حتى وإن كان هناك البعض ممن يحتكر المعرفة إلا أنه إحتكار لا يؤثر كثيراً في حياة الجماهير العريضة.
عودة إلى “تسليع” العمارة “Architecture commodification” ، ألا نشهد الآن حالات من الإحتكار تقوم بها كيانات معمارية ضخمة وعابرة للقارات؟ هذه الكيانات الرأسمالية الكبيرة يدعمها مبدأ “الإنتاج بالجملة”، فالمشاريع التي تطرحها الحكومات والشركات في معظمها مشاريع ضخمة تدار بفكر رأسمالي لا يؤمن بالنمو الطبيعي للعمران ولكن يؤمن فقط بالهيمنة الفوقية، وهو بالتأكيد لا يرغب في أي ملامح فردية أو حتى أنساق ترتبط بالمكان بصورة أو بأخرى فهذا عكس القوالب النمطية التي يتبناها كمنهج أساسي للإنتاج بالجملة المربح !!!. هذه الكيانات تضغط شيئاً فشيئاً على استديوهات التصميم والمصممين الأفراد وتقطع الطريق أمامهم لتستحوذ على النسبة الأعظم من المشروعات. الأمر مشابه تماماً لما تقوم به سلاسل الهايبر ماركت مع محال البقالة وسلاسل مصانع الألبان مع منتجي وموزعي الألبان الأفراد، هذه هي قوانين الرأسمالية الشرسة إذ لا مجال للتنوع الذي يحدثه الأفراد ، الكل يجب أن يعمل كترس داخل الآلات الضخمة التي تنتج قوالب نمطية بالجملة.
نحن أمام أحياء بل مدن جديدة ضخمة تظهر فجأة وسط نسيج عمراننا بمخططات فوقية تنتجها تلك الكيانات بأسلوب الإنتاج الصناعي حيث اللأبعاد الثقافية أو الإنسانية هي محض رومانسية لا يلتفت لها أحد!!!!. فهذه الكيانات لا ترى أحمد أو حسن أو محمد ولا تريد أن تعلم شيئاً عن العلاقات الاجتماعية التي قد تربط بيننا فنحن جميعا بالنسبة لها أعداد يراد تسكينهم أو تشغيلهم……وقطع الأراضي التي تصمم عليها مشاريعها هي بالنسبة لها مساحات خاوية صماء منبتة الصلة عن أي بعد يحكم التصميم أو يوجهه ، وقد يكون من باب ذر الرماد في العيون أن يتم دراسة الأبعاد المناخية وحسب وبصورة سطحية كمحاولة للتجمل لا أكثر.
المخطط العام لمدينة نيوم على ساحل البحر الأحمر
المدهش أن البعض منا يمجد أصحاب هذه الكيانات “الشركات” ويصفهم بنجوم العمارة الدولية ، فبتنا نشاهد صور من صور “الماركات” العالمية في العمارة ، لا تهم الجودة ، لا تهم التفاصيل ، لا تهم الملائمة ……المهم “الماركة”.
هذا الوضع لم يضر فقط بالنطاقات الشاسعة من عمراننا والتي باتت حكراً لهم ولكن أفرز أيضاً صوراً مشوهة للمارسة على مستوى المصممين الأفراد فنحن أمام حالة أصبحت سائدة للمعماري الفرد الذي يدور في فلك أصحاب رأس المال ويخدم شريحة النصف في المئة فقط ونتاجه غالباً ما يخضع لقانون العرض والطلب ونزعات وهوس التشكيل بحسب “الموضة” !!!! فهو بالتأكيد لا يريد أن يخسر عمله الشحيح الذي يتكسب منه.
في تقديري أننا نحن المعماريون أصحاب الياقات البيضاء قد ارتكبنا جرماً كبيرا في حق الجماهير العريضة حينما انتزعنا من الناس مهاراتهم وطرقهم التقليدية في البناء ثم انصرفنا عنهم لنقدم خدماتنا المهنية حصراً لأصحاب رأس المال وتركنا الجمهور العريض للعشوائية. ولم نكتفي بذلك بل وأفسدنا عليهم طرقهم حينما قررنا من خلال تصاميمنا أن نشيع خطأً بأنه لا توجد تقنيات ولا مواد بناء سوى التي نستخدمها نحن فقط والتي هي في الأساس معظمها منقول من مجتمعات غربية حتى وإن قمنا بتصنيعها محلياً. لقد حصرنا أنفسنا في أنماط بناء محددة وليتنا قدمناها بصورة ناجحة بل مع الأسف البعض منا شوهها بسبب خضوعه لرغبة “الزبون”.!!!!!!! وانكفأ كل منا يكرر نفس هذه الأنماط بدون أي مراجعة للنفس للبحث عن بدائل أخرى أقرب لحياة الناس ، ولماذا نهتم بالناس فجميعنا نجري على لقمة عيشنا !!!!!!!!!!!!
لذلك دائما ما أكرر بأن ما ننتجه في بلادنا هو في معظمه ليس بـ “عمارة” بل هو مجرد “بناء”، بعد أن أصبح في غالب الأمر يخضع لمعايير صناعية بأكثر من التزامه بالقيم الإنسانية.
من المثير للدهشة أن أصبحت التشكيلات والتقنيات والمواد هي هدف يرتجى لذاته في معظم التصاميم، وإذا ما حاول البعض منا أن يكون أكثر عمقاً نسبياً تجده أولى اهتماماً بقضايا توفير الطاقة والمخلفات وحسب!!!! أين الناس ؟ أين ما يخص ثقافتهم ، هويتهم ، تفردهم ؟؟؟ أحيانا تجد إجابات متحذلقة متفلسفة لا تمت للواقع الذي سيفرضه التصميم نهائياً وكأن على مستخدمي التصميم أن يحفظوا هذه النصوص المتحذلقة ويرددوها صباحاً ومساءً مع أنفسهم ليقتنعوا بأنها حقيقة وواقع حتى وإن لم يعيشوها فعلاً.!!!!!
مع الأسف لقد انفصلنا تماماً عن القاعدة العريضة لمجتمعاتنا وبعضنا أصابه الهوس بالممارسات والتقنيات الحديثة والأشكال السطحية التي تنتجها برامج وتطبيقات ما يعرف بـ “الذكاء الصناعي” والتي تعمق ليس فقط من تهميش “الناس” بل وجميع العاملين في مجال البناء فعلى سبيل المثال حينما ستسيطر أدوات الطباعة الثلاثية في المستقبل سيصبح لا وجود لمسمى عامل بناء بل وقد يتطور الأمر ليصبح لا قيمة لوجود المعماري نفسه!!!
في وقت من الأوقات نجحنا وبجدارة مع الأسف في تدمير بيئتنا الطبيعية حتى تدهورت بقع كثيرة من كوكبنا بسبب ممارساتنا الخاطئة والحمد لله أننا بدأنا نفيق نسبيا وبدأت منذ عقود مبادرات تصحيح المسار في العالم المتقدم………. ولكن من يصحح مسار تدمير بيئتنا الإنسانية التي نغفل عنها لأننا لا نراها ولا نلمسها من يصحح مسار تدمير منظوماتنا الثقافية والأخلاقية والنفسية التي شوهتها ممارساتنا الخاطئة وساهمت “عمارتنا” المعاصرة في ذلك؟
منذ حوالي ثمانية عقود مضت كانت هناك محاولات ودعوات لمد الجسور التي أنقطعت بين الممارسات الشعبية والبناء المعاصر والأن أما وقد مرت كل هذه العقود وجرت في النهر مياه كثيرة لقد تعقد الأمر كثيراً وأصبحت مهمتنا نحن المعماريين اشد صعوبة لأننا لسنا فقط مطالبين بمد الجسور بل بالبحث أسفل الأنقاض لنجد الركائز الأصلية لمجتمعاتنا والتي شوهتها وغطتها “المدنية ” الزائفة حتى نستطيع أن نقيم تلك الجسور.
لقد اتسعت الهوة وفقدت مجتمعاتنا الثقة في نفسها وفي قدرتها على إنتاج عمارة حقيقية تنتمي للمكان ولا تخضع لقانون العرض والطلب المعولم وبات علينا نحن المعماريون واجب وأمانة أن نقف وقفة جادة مع النفس نراجع فيها ممارساتنا ونبحث بصورة أمينة وصادقة مع النفس في كيفية إعادة بناء تلك الجسور ودعم أنماط بناء مغايرة للسائدة حالياً. يجب أن لا نخشى التجربة حتى وإن جانبنا الصواب في البدايات ويجب وأن لا نلتفت لتلك الدعوات التي تحاول أن تثبط من عزمنا بدعوى أننا بذلك “نعود للوراء” وبأن الحداثة أمر حتمي علينا الرضوخ له.
أذكر نفسي واذكركم بأن الحداثة هي في صلب جوهرها أن نصنع عمارة تلتقي مع فكرنا الحديث واحتياجاتنا المعاصرة ولكنها ابداً لا يجب وأن تتعارض مع حقيقة : من نحن ومن اين نشأنا، ومن نكون.
 
محمد الرافعي ، 26 مايو 2023
 

 

 
 
 
 

 

 

 

Leave A Comment

Related posts

Browse All

خواطر ورؤى معمارية

  …خواطر ورؤى معمارية     هذه باقة من أفكاري وخواطري جمعتها هنا علها تُبدد حيرة أو تُهدي فكرة أو تنير ظُلمة أو تُرشد لطريق، ولا أريد أن يُظّن من قرائتها أنني وحدي من يمتلك الحقيقة وغيري تائه في الضلال؟ فما أطرحه هنا هو محض اجتهادات فكرية ورؤى خاصة بي…

لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة

  لنفسح المجال أمام أنساقنا البنائية المحلية كي تمنحنا حياة معاصرة   هذا هو الهدف الرئيس الذي تمحورت حوله رؤيتنا التصميمية للمشروع الذي صممناه حديثاً ونشارك أفكاره معكم . فالنسيج الكتلي المتضام، والفناء الداخلي، وخلق الفراغات المنحوتة في الكتلة من الداخل إلى الخارج، وتوظيف مواد البناء الطبيعية في الإنشاء، والتهوية…

هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم

  هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم   أتتذكرون طفولتكم وكم هي كانت جودة الحياة فيها؟ أتذكرون عندما كانت المباني تجسد صورة دقيقة لقسمات مجتماعتنا، وتحمل في طياتها قصصاً وأسراراً؟ عندما كانت الجدران تتحدث، والخشب يروي حكايات الزمن؟ اليوم، يبدو أن المباني فقدت روحها، وتحولت إلى مجرد هياكل خالية…

العمارة النظرية… وحب الظهور

  العمارة النظرية… وحب الظهور   وصلتني مؤخرًا دعوة للمشاركة كمتحدث رئيس في مؤتمر دولي يتناول قضايا التراث والترميم تحديدًا، فتساءلت في حيرة: من أين حصل المنظمون على معلومة أنني متخصص في الترميم؟ فهذا المجال لم أعمل به قط، ولا توجد لدي أي خبرة عملية مرتبطة به، لذا فأنا لست…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثالث

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثالث – التراث فوبيا في عالمنا الذي نعيشه الآن ونؤتمن فيه على ميراث ألاف السنين من التجارب الحياتية الحضارية التي صنعها الإنسان بوجوده على هذا الكوكب يوجد نموذجان من المعرفة لا ثالث لهما :   النموذج الأول – معرفة متوارثة نتجت عن تراكم خبرات…

القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا – المقال الثاني

  القبة والحائط الحامل والتراث-فوبيا المقال الثاني – الحائط الحامل   في المقال السابق تحدثت عن أول عنصر يثير الحساسية عند الكثير من المعمارين “الحداثيين” وهو السقف القوسي وتحديدا “القبة ” بسبب نظرتهم القاصرة إليه كونه تعبير بصري ويغفلون عن حقيقته كونه نسق إنشائي بيئي في الأساس وتأتي تعبيراته البصرية…
Browse All

Adeem Consultants is a full-service design studio providing architectural consultations.

Contact Info

Phone – Egypt    : +2 02 235 23 102

 Mobile – Egypt    : +2 010 01 587 791

 Mobile – KSA      : +966 508 094 594

 Mobile – Turkey : +90 535 853 40 68

  Email : Info@adeemconsult.com

Office Address

6 Sabel El-Moamenen St.,

Al-Sefarat district, Nasr City,

Cairo, Egypt.

Post code 11471, EGYPT

UP