لماذا ندرس التصميم لطلبة العمارة إجباراً ؟؟؟
دعيت الشهر الفائت لأكون ضمن لجنة الممتحنين لتقييم مشاريع التخرج لطلبة السنة النهائية بكلية العمارة بأحد أكبر الجامعات العربية وتناقشت كثيراً مع الزميل الفاضل أستاذ مادة التصميم حول المعايير والخطوط العريضة للمعارف والعلوم التي يتلقاها الطلبة للوصول إلى هذه المرحلة. ثم تسلمت نسخة رقمية من المشاريع للإطلاع عليها قبل مناقشته مع الزملاء والطلبة.
لقد أصبت بصدمة وخيبة أمل حقيقية ….! ولا أريد أن أخوض هنا في تفصيل سبب هذه الصدمة لأن الأمر يحتاج لنقاش تفاصيل كثيرة قد أتناولها لاحقاً في مقال آخر بإذن الله، ولكن أهم ما ألح على خاطري عبر هذه التجربة وما أريد تسليط الضوء عليه هنا هو السؤال التالي:
لماذا نصر على تدريس مادة التصميم المعماري للجميع ؟
من وجهة نظري الخاصة أن التصميم المعماري يبنى على دعامتين أساسييتين ألا وهما : المعرفة ، والموهبة .
هاتان الدعامتان لا غنى لأحدهما عن الأخرى. فتصميم بدون معرفة يصير مجرد أوهام وخيالات لا تمت للهندسة ولا للواقع بأي صلة وعلى الجانب الآخر فإن التصميم بدون الموهبة الإبداعية يصبح مسخاً أو مجرد بناء صناعي منبت الصلة بمفهوم العمارة كونها حاضنة لثقافة المجتمع ورافد أساسي من روافد فنونه.
نحن نعلم جميعاً أن الدعامة الثانية لا تتوفر لجميع الطلبة ونعلم كذلك يقيناً أن نسبة لا تتعدى 5% من خريجي العمارة هم من لديهم حقيقة ً ملكة التصميم والإبداع ويستطيعون مع تراكم الخبرة والمعرفة التي سيجنونها خلال حياتهم المهنية أن يقدموا تصميمات مستوفيه لجوانبها الفنية والإبداعية، فلماذا إذا نصر على أن نحشر جميع طلبتنا في قالب واحد جامد قد يسبب الإحباط للبعض منهم ؟!!!!! لمجرد شعوره بأنه يفتقد لهذه الملكة !!! حيث أننا لم نتخلص حتى الآن من النظرة التقليدية إلى المعماري كونه فقط “مصمم” وأن مقياس النجاح ” الحقيقي ” في هذا القسم يقاس على مقدار ما يحصله الطالب من تميز في مادة التصميم المعماري وتحديداً في “مشروع التخرج ” !!!!! وهو المعيار الذي يتم التعامل معه بصورة نمطية عند التقدم للحصول على وظيفة في سوق العمل !!
ترى ما الفائدة التي يجنيها طالب قضى من ساعات دراسته الكثير لعمل تصميمات لمشروعات وهو قد لا يعمل في مجال التصميم على الإطلاق من بعد تخرجه ؟؟!!!! ألا يعتبر هذا هدرا للوقت والمال والمجهود لعنصري المنظومة التعليمية ” الطالب والأستاذ” ؟ أليس من الأجدى والأنفع أن يتم توجيه هذا الوقت والجهد لدراسة علوم هندسية ومعمارية قد تفيده في حياته المهنية ويحتاجها سوق العمل بشدة؟
البعض قد يظن أنني أدعوا إلى إلغاء تدريس مادة التصميم لطلاب العمارة على الإطلاق وهو ما لم أقصده نهائياً فأنا لا أدعو لإلغائها ، فقط أردت أن أعالج قضية البعد المعتمد على الموهبة بها وحتمية أن يقدم جميع الطلاب تصاميم في السنوات النهائية تحت مسمى “مشروع التخرج” . وأدعو إلى أن نتخلى عن الصورة النمطية التي انطبعت في أذهان الكثيرين بأنه “لا معماري إلا مصمم ” !!!!!! وهي شبيهة بالصورة النمطية الكلاسيكية التي استطاع الأطباء أن يتحرروا منها والتي كانت تدعي بأنه ” لا طبيب إلا جراح ” .
لقد أثبتت الممارسة المعاصرة بأن الجميع له نفس الدرجة من الأهمية وأنه لا يوجد في الأمر أي نوع من أنواع التراتبية التي تجعل المعماري المصمم في مرتبة أعلى أو أرقى عن غيره من سائر المعماريين المتشاركين معه في إنجاح العمل.
أنا أؤيد أن يدرس الطلبة جميعاً في السنوات الأولى أسس ومحددات ومدارس التصميم المختلفة وهذا لدعم البعد المعرفي فضلاً عن دراسة كافة العلوم الأخرى والتي جميعها تغذي عملية التصميم ولكن ما جدوى أن يصرف أحد الطلبة وقت وجهد كبيرين في تصميم مشاريع في السنة النهائية وهو لا يملك موهبة التصميم ووقته هذا قد يفيد أكثر كثيراً لو تم توجيهه لمشروع في مجال إعداد مخططات التنفيذ أو الهندسة القيمية مثلاً؟
الحقيقة أنني بهذا الطرح قصدت أن ألقي حجراً في الماء الساكن لأكشف عن مشكلة حقيقية لامستها من خلال تجربة واحدة أكاديمية ولكني أعايشها بصفة مستمرة منذ سنوات في حياتي المهنية كلما تقدم لي معماري حديث التخرج للعمل معي ضمن فريقي التصميمي بمكتبي الخاص ودائما ما يحزنني انخفاض مستوى الخريجين الجدد يوما من بعد يوم وهذه المشكلة أعتقد أن كثير منا يواجهها بصفة مستمرة وأعتبر أن إنكارها لهو نوع من أنواع دفن الرأس في الرمال ومعاونة غير مباشرة على هدم صرح هذه المهنة الرفيعة.
الحقيقة أنني أرى أن الكثيرين من خريجي العمارة قد ظلمتهم منظومة التعليم المعماري بأكثر مما قد ظلموا أنفسهم. ومن خلال إفادة مجموعة من الزملاء الممارسين والأكاديميين ونخبة من أساتذتنا الأفاضل تبين لي بما لا يدع مجال للشك أن هناك بالفعل خللا يحتاج للمراجعة والمعالجة، وأن الأمر جد خطير ويحتاج وقفة شجاعة وبالتأكيد لا يناسبه النقاش عبر منصات التواصل الاجتماعي بل يحتاج لمناقشة جادة وموضوعية في لقاء (لقاءات) في صورة مؤتمر مثلاً يجمع بين جميع أطراف المنظومة من أكاديميين وممارسين وقد ينضم أليه بعض من طلبة السنة النهائية لوضع تصور مناسب للعلاج.
إذا ما دققنا النظر في حال التطور اللاهث الذي أصبح سمة لعصرنا الحالي سنجد أن العلوم الهندسية الحديثة المرتبطة بالعمارة والبناء أصبحت كثيرة جداً ومتشعبة وتفتقد لمن يدرسونها دراسة أكاديمية نظرية ونحن قد تركناها ولم تتطرق كثير من مدارسنا المعمارية لها إلا بقشور بسيطة لا تسمح بتكوين مباديء أساسية تتيح للطلبة استكمال المسير في دراستها بعد التخرج. فعلوم مواد البناء المتطورة وعلوم الحوسبة وعلوم البيئة والاستدامة جميعها تحتاج لخريجين لديهم القواعد الأساسية للانخراط في العمل بها. والأمر لا يتوقف عند افتقاد سوق العمل لخريجين على دراية معتبرة بتلك العلوم الحديثة وحسب بل أن سوق العمل يفتقد أيضاً لطلبة لديهم معرفة مضبوطة بعلوم تقليدية يهملها الكثيرين ونعاني من تبعات ذلك في مستوى جودة المباني حيث لا نجد على سبيل المثال خريجين يجيدون العمل في مجال الإنشاءات أو إعداد رسومات التنفيذ والتنسيق بين التخصصات الهندسية المتداخلة أو إدارة المشروعات بصورة صحيحة!!!!
أليس من المجدي مثلاً أن يتم الإكتفاء بتدريس أسس ومحددات التصميم المعماري لجميع الطلبة في السنتين الأولتين من الدراسة فقط لتغطية الجانب المعرفي من الموضوع ثم يسمح لمن يرغب بعد ذلك من الطلبة أن يختار التصميم كمادة أساسية ضمن مواد السنتين الأخريين ليقدم مشروعه في النهاية ليتخرج كمصمم معماري؟ على أن نفسح المجال لطلبة آخرون أن يقدموا مشروعات تخرج متخصصة في رسومات التنفيذ بالتنسيق بين نظراء لهم في أقسام الهندسة الإنشائية والهندسة الكهربائية والميكانيكية أو أن يقدموا مشروعات تخرج متخصصة في منظومة إدارة المشروعات أو التصاميم البيئية المستدامة وهكذا.
محمد الرافعي مايو 2020