متى نقلع عن “تصميم المباني”….؟
كلما مررت على مبان يصفها البعض كونها “حديثة” كالتي في الصور المرفقة يقفز إلى ذهني سؤالين أحدث نفسي بهما:
مباني إدارية حديثة البناء بالشريط المركزي بالتجمع الخامس – القاهرة
السؤال الأول:
لماذا يعتقد البعض أن هذه المباني تحمل صفة “الحداثة” ؟ هل بسبب نوعية الخامات المستخدمة؟ هل يمكن للخامة أن تمثل معياراً للحداثة؟ حتى ولو كانت هذه الخامة لا تحترم أي معيار بيئي أو اقتصادي أو اجتماعي؟ أم أن السبب يكمن في خلو تلك المبانى من التفاصيل؟ على الرغم من أن كثير منا يهيم عشقاً في التفاصيل المدروسة بعناية والتي تزخر بها العمارة التراثية في كل مكان حول العالم!! أم أن السر يكمن في سيطرة التكنولوجيا على عملية البناء؟ فنرى البعض يثير إعجابه أن هناك مبان تشيدها الطابعات الثلاثية في زمن قياسي ويصف ذلك بأنه “قمة الحداثة” !! على الرغم من أن اختصار زمن الإنشاء لا يعتبر معياراً ذا أهمية قصوى إلا في حالات الكوارث والحاجة إلى إيواء الناس بسرعة كبيرة وهي حالة استثنائية لا ينبغي لنا تعميمها، أم أن السبب في كون هذه المبان تتشابه في واجهاتها الخارجية مع ما نراه في المدن الغربية والتي وقر في ذهن الكثير منا أنها لمجتمعات تحيا حياة “حديثة”!!، أم لأن هذه المباني تتفق مع نمط الحياة الاستهلاكية المسيطرة على مجتمعاتنا والتي ترى أن كل شيء أصبح مجرد “سلعة” وكل سلعة تخضع لموجة من الرواج لفترة من الزمن “موضة” ثم لا تلبث أن تختفي ليحل محلها موجة أخرى بملامح مختلفة؟ أم لأن هذه الصور من المبان هي ما تتبناها الرأسمالية المسيطرة على مفاصل هذا الكوكب لتروج لمنتجاتها المادية منها والفكرية؟
حقيقة لم أجد إجابة منطقية في كل ما سبق تجعلني أخلع صفة “الحداثة” على تلك المبان.
السؤال الثاني:
هل ما أراه أمامي يمكن أن أسميه “عمارة” في الأساس؟ أم أن هذه المبان قد تم فقط إنشاؤها وفق مخططات “هندسية” تنظر للمبنى كآله تؤدي وظيفة محددة ويتم تجميلها من الخارج بصبغات أو قشرة رقيقة البعض يسميها “طابع” وقشرة أخرى من الداخل تسمى “ديكور”، وتتنوع تلك القشور لتتخذ تعبيرات متباينة ، حديثة “مودرن”، كلاسيكية أو محلية أو عربية أو “إسلامية”….إلخ، ولكن في النهاية تظل جميعها قشور لا ترتبط بجوهر النتاج البنائي وأبعاده المختلفة، والمصيبة أن البعض يحاول تحميل هذه القشرة ما لا تطيق ويجعل منها معياراً للـ “الهوية”، وكأن الهوية مجرد مفردات بصرية خارجية فقط لا ترتبط بأية أبعاد أخرى أعمق من مجرد الشكل الخارجي الذي تظهره تلك “القشرة”.
تلك النظرة الوظيفية النفعية التي ابتدعها لوكوربزييه في القرن الماضي، وتبناها من بعده أجيال متعاقبة من المعماريين في بلادنا العربية حتى باتت تعبر عن حالة عامة تنتهجها الكثير من مدارس العمارة، تُصمم فيها المبان كما تُصمم السيارات أو القوارب!!!، فنسمع كثير من المعماريين يرددون تعبيرات من قبيل “حل المسقط الأفقي”، وكأن “حل” المسقط هو غاية المراد ومنتهى العبقرية التي يسعى إليها المعماري سواء كان طالباً أو ممارساً، ويدهشك أن تجد من يحلل المبنى نقدياً من خلال تقييمه للمسقط ومدى تحقيقه للوظيفة أو من خلال موقفه من الواجهة الخارجية ومدى تأثيرها على الناظر إليها من الخارج.
لا أدري حقيقة سبب خضوعنا لهذه الرؤية حتى الآن ولا أدري متى تستقل كليات العمارة في بلادنا لتصبح كليات قائمة بذاتها لا تدرس فقط العلوم الهندسية ولا الفنون بل تدرس بجانبهم الاقتصاد والاجتماع والتنمية البشرية وعلوم البيئة والعلوم الإنسانية مع ربط المناهج بالأدب واللغة والتاريخ والفلسفة العربية، ولا أدرى متى سوف نحرر عقولنا من القشور الخارجية وننتج عمارة صادقة؟، فنحن نحتاج إلى معماريين وليس “مصممي مبان”، فما نراه في الكثير من مدننا العربية منبت الصلة عن “العمارة”، فما يجب أن يقوم به المعماري يختلف جذريا عن مجرد تصميم مبنى بل هو يخلق نتاجاً كاملاً يتفاعل مع المجتمع والبيئة المحيطة ويؤثر فيهما لعقود طويلة من خلال الأبعاد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي يحملها، فالمعماري مطالب عند كل قرار تصميمي يتخذه أن يجيب عن أسئلة جوهرية من قبيل:
ما أثر هذا القرار على الصناعة الوطنية؟ هل سيساهم في توطين صناعة محلية؟ هل يمكنه أن يساهم في خلق فرص عمل والتوزيع العادل للثروة؟ هل يوظف خامات محلية؟ أم سيعتمد على ما تنتجه السوق الدولية ويستلزم استيراده؟ وما موقفه من التكنولوجيا واستخدام الآله؟ هل يخاصمها بالكلية ويعود للماضي البعيد والعمل اليدوي المضني؟ أم يستسلم تماماً ويسحق البعد الإنساني قرباناً لهما؟ أم يقف في منطقة وسط؟ هل سينتج عن قراره مشكلة اجتماعية؟ أم سيساهم في دعم بعد اجتماعي إيجابي بين الناس؟ هل هذا القرار سيزيد من الضغط على البيئة الطبيعية؟ أم أنه سوف يحافظ عليها وينميها؟ هل هذا القرار سيؤثر على منظومة القيم والأخلاق التي يجب الحفاظ عليها في المجتمع للحفاظ على أمنه وسلامته ؟ أم أنه يساهم في هدمها وإضعافها؟ هل هذا القرار يحترم الميزانية المرصودة للمشروع ويمكنه أن يصنع قيمة مضافة إقتصادياً؟ أم به شبهة اهدارلأموال الناس بالباطل دون فائدة حقيقية؟
الأسئلة كثيرة جداً ومتشعبة والواقع الذي نعيشه ونراه في المبان من حولنا يشي بأن كثير من المعماريين لا يدرك قيمة أو فداحة الأثر الذي يترتب على القرارات التصميمية التي يتخذها مهما كانت بسيطة أو صغيرة.
أدعوكم لتأمل الاسكتش الذي كنت قد قدمته في أحد محاضراتي باسطانبول وأرفقه لكم مع هذا المقال، حيث ستجدونني أوضح فيه نموذج لبعض الفروقات الجذرية التي تنجم عن مجرد قرار بسيط جداً قد لا يلقي الكثير منا له بالاً حينما يقررون أن يرسموا الحائط بالمسقط الأفقي بسمك كبير “ثخين” أو بسمك قليل “رفيع” وما يترتب على كل قرار منهما من أبعاد اقتصادية وبيئية واجتماعية.
نقطة أخيرة قبل أن اختتم هذا المقال أود أن نستوعبها بهدوء وروية، تتعلق بنظرتنا للتطور والتي في تصوري يجب وأن ترتبط دوماً بإعادة قدرتنا على نقد الذات بغرض التصحيح والتعديل للطريقة التي نتناول بها أفكارنا حول مفهوم “الحداثة”، والذي لا ينبغي دائماً له أن يسير في طريق خطي للأمام، فأحياناً الشجاعة تقتضي أن نعترف بخطأنا في تحديد الاتجاه، وقد يستلزم ذلك أن نتراجع خطوة أو عدة خطوات للوراء، ولا يعد هذا من قبيل الرجعية أو التخلف، بل هو عين اليقظة والتطور، بدلاً من أن نكون كالسائرين نياماً كفاقدي الوعي ومسلوبي الإرادة في تحديد ما ينفعهم وما لا ينفعهم، فالعالم من حولنا يمارس نقد الذات بصفة مستمرة ونراهم يلفظون ويتراجعون عن أمور كثيرة كنا نظن أنها من المسلمات البدهية، فنراهم يتجهون لتوظيف الخامات الطبيعية ويتراجعون عن الاستخدام المفرط للخرسانة، ويتمدد عمرانهم أفقياً ويبتعدون عن السكن في الأبراج المرتفعة، ويخفضون اعتماد ابنائهم على الأجهزة التقنية “الحديثة” في التعليم ويعودون للورقة والقلم والكتاب المطبوع، ويكتشفون خطأ تقديرهم لدور الألة في حياتهم فيشجعون على العمل اليدوي من جديد،….. الأمثلة كثيرة ومتنوعة والمراجعات مستمرة لديهم وتنال كافة أمور حياتهم الاجتماعية والصناعية والاقتصادية..إلخ، ولا يعتبرون العودة للوراء نقيصة تعيبهم، بل هي عين الوعي والشجاعة لاتخاذ قرارات يصححون بها مساراتهم المرتبطة بتطور نظرتهم ورؤيتهم العميقة والموضوعية لمفهوم “الحداثة”.
إن الإنسان منا يقضي جل حياته أمام سيل هائل من القرارات المطالب باتخاذها باستمرار وهي تمثل تجسيد كامل لأمانة العقل التي وهبنا إياها الخالق جل في علاه، فإما أن يوفيها حقها بوعي أو أن يهدرها في عبث، فالأمر متروك له وكلٌ سوف يحاسب على أمانته.