… نور المصابيح المطفأة
في حياتنا أشخاص كثيرون كانوا بمثابة مصابيح اضاؤوا لنا الطريق ولا يزالون رغم رحيلهم عن دنيانا.
حزنت كثيراً حين وصلني خبر وفاة ما كنت أعتبره “الأب الروحي” للتقنيات الحديثة للبناء باستخدام التربة الطينية، المهندس الفرنسي البلجيكي الأصل ” Hugo Houben ” هوجو هوبن، وهو الرئيس الأسبق للمركز الدولي لأبحاث البناء بالطين ” CRATerre” كراتيربمدرسة العمارة بجرونوبل.
المسيرة المهنية لهذا الرجل ملهمة إلى أقصى حد ، فهو في الأصل مهندس الكترونيات وفيزياء نووية قادته الصدفة البحتة للمشاركة وهو شاب عشريني في بناء قرية شعبية بالجزائر ومنذ ذلك الحين اكتشف ما غير مسار حياته بالكلية حينما وجد أن خامة “الطين” يمكنها أن توفر الحل العبقري للحاجة للبناء في أطر محددة وأن لديها مجال واسع لتطويرها وتطويعها للاستخدام الهندسي المضبوط ومن وقتها وهب حياته بالكلية لبحث وتطوير تلك الخامة الطيبة.
لقد أطلق هوجو هوبن وصديقه “Patrice Doat ” باتريس دوات “الطالب في مدرسة العمارة بجرونبل وقتها” الشرارة الأولى لإنشاء مركز “كراتير” الذي أصبح اليوم أكبر مركز أبحاث في العالم يهتم بكل ما يتعلق باستخدامات خامة الطين في البناء.
التقيت به سنة 1996 في ورشة تدريب نظمها مركز أبحاث الطاقة الذرية بالتعاون مع وكالة “BASIN” وكانت حول تقنيات البناء المتوافقة واستمرت لمدة أسبوعين كنا نستمع فيها إلى محاضرات متميزة في الصباح ونتدرب بصورة عملية على عمليات تصنيع الطوب المضغوط و البناء به وقت الظهيرة.

أول مرة أقوم فيها بصنع طوبة من التربة المضغوطة في ورشة التدريب
في تلك الورشة تعرفت على نخبة من الخبراء الدوليين في مجال تقنيات البناء المتوافق ” Appropriate Building Techniques “ وتعرفت فيها أيضاً على صديقي الرائع شريف الجوهري Sherif Algohary الذي كان كالدينامو المنظم للفاعليات في هذه الورشة.
لشغفي وتعلقي الشديد بموضوع الورشة فقد قررت أن أنقطع لمدة الأسبوعين عن العالم الخارجي تماماً وأن أتفرغ للاستفادة بكل دقيقة فيها ، فقررت أن أقيم مع الوفود الدولية المشاركة في المؤتمر في نفس المبنى بأنشاص لكي أحظى بفرصة التحدث إليهم في المساء لعلني أحصل على أكبر قدر ممكن من المعرفة وأن أنهل من علمهم وخبراتهم.
وفي أحد الأيام أتاحت لي طاولة العشاء “الطيبة” أن أجلس مع هوجو هوبن سوياً وأن يدور بيننا نقاش مطول حول أستاذنا العبقري حسن فتحي وحول ما كنت جمعته من خبرة عملية اثناء عملي السابق في مشروع تنموي من تصميم استاذنا فتحي في النوبارية ، وتجربتي في تصنيع “ضرب” الطوب اللبن مع البنائين المحليين من قرية المحاميد في صعيد مصر وتطرق الحديث ليسألني إن كنت استطيع أن أوفر له نسخة عربية من كتاب “عمارة الفقراء ” ليتيحه لطلبته من العرب في كراتير عندما يعود إلى فرنسا؟ فتبسمت واخبرته أن هذا الكتاب هو رفيقي الذي لا يفارقني على الدوام وأنني أحتفظ بأكثر من نسخة منه بالبيت وفي هذا اليوم تركت أنشاص وعدت سريعا للبيت….وفي اليوم التالي فجأته على العشاء بأن أعطيته الكتاب كهدية مني له تقديراً مني لعلمه الواسع في نفس المجال الذي يجمعنا. لم تمر إلا لحظات ووجدته قد استأذني وذهب إلى غرفته ثم عاد وهو يحضر في يده نسخة حديثة من كتابه الأشهر Earth Construction A Cmperhinsive Guide ويهديه الي في المقابل.

هدية كان لها أعظم الثر في حياتي، هذا الكتاب كان رفيقي في قصتي الخاصة مع طوب التربة المضغوطه
لا أستطيع أن أصف مقدار فرحتي بتلك الهدية القيمة ، فهذا الكتاب أعتبره كنز معرفي في هذا المجال ، وفي تلك الأيام لم يكن بالسهولة أبداً الحصول على الكتب الأجنبية التي تتناول مواضيع يندر وجود من يقرأها في مصر، ولم يكن هناك أمازون حيث يمكنك شراء الكتب فيما وراء البحار ولم تكن النسخ الإلكترونية متوفرة كما هو الحال اليوم. وفي ذات الوقت هذا الكتاب الذي أهداه لي هو يعتبر المرجع الأهم في مجال البناء بالتقنيات الحديثة المستخدمة للتربة الطينية والذي من بعد أن عكفت على قرائته أحدث فارق هائل في حياتي المهنية للدرجة التي أعده أحد الدعائم الرئيسية التي استندت إليها عند قيامي بإنشاء أول شركة متخصصة في مصر لبحث وتطبيق تقنيات انتاج طوب التربة المضغوطة وتصنيع معدات انتاجه.
قد كان هوجو هوبن من نوعية الممارسين المحترفين الذين يؤمنون بأهمية الخبرة المتوارثة عبر الأجيال ومن المؤمنين بأن المعرفة المبنية على التجربة والخطأ لا يمكن أبداً تجاهلها وهنا يحضرني موقف لا يمكن أن أنساه وهو أننا في أحد أيام الورشة نظم لنا صديقي شريف الجوهري رحلة إلى مركز الفسطاط لفنون الخزف الذي كان قد صممه الزميل المعماري المبدع جمال عامر Gamal Amer، وأخذ جمال يشرح لنا تصميمه ثم كان أن توقفنا عند قاعة كبيرة تغطيها قبة ضخمة قطرها على ما أتذكر سبعة أمتار أو يزيد وكنت أقف بين كل من العملاقين هوجو هوبين والبروفيسور جيرونت منك ” Gernot Minke ” وهو أستاذ العمارة والبناء بالطين في جامعة كاسل في المانيا ، وفوجئت بأن مينك لا يرغب في الوقوف أسفل القبة لأنها من وجهة نظره قبة غير آمنة !!!!! وذلك لكونه مخترع نظرية تأثير السلسلة ” Catenary action ” فاندهشت واندهش هوجو هوبن من ردة فعل مينك وقال له ” أن حكمك عليها لا يغير من حقيقة صمودها فوقنا شيئاً ، وأنا قد رأيت وزرت أماكن كثيرة بناها ناس عادية لقباب بنفس الأسلوب وهي صامدة لعشرات السنين”…… ولعل هذه الإجابة نقلت لي الرسالة التي طالما تحدثت عنها في مناسبات كثيرة ألا وهي أننا كمهنيين دارسين لعلوم وأصول الهندسة لا يجب أن ننظر للموروث القائم بتجاهل أو استخفاف فهذا الموروث قد مر بمرشحات عديدة أثبتت جدارته على البقاء واحترامنا بل وتكاملنا معه لا ينتقص من قدرنا في شيء بل هو يثري من عملنا أكثر ويجعله أكثر قرباً من الواقع ومن حياة الناس.

نقاش فني مع Hugo Houben في إطار ورشة عمل حول تقنيات البناء المتوافقة – بيت الهرواي ، القاهرة 1997
لقد استمرت علاقتي بهوجو هوبن لمدة حوالي خمس سنوات من بعد عودته لبلاده ، فكنت أرسل اليه باستمرار ايميلات اخبره فيها عن تقدمي في انشاء الشركة والاختبارات التي أقوم بها والمشكلات التي تواجهني والحقيقة أنه لم يكن يبخل بالنصيحة والتشجيع. ثم انقطع تواصلنا من بعدها.
الآن وبعد أن علمت بخبر وفاته الحزين تذكرت أن لهذا الرجل فضل عظيم علي بعد الله سبحانه وتعالى فيما حصلته من خبرة وعلم في هذا المجال بإهداؤه لي كتابه الرائع، وهذا ما جعلني أفكر في غيره من الاشخاص الذين أثروا تأثيراً هائلاً في تكوين شخصيتي المعمارية وأدين لهم بالفضل بعد الله في ما وصلت إليه الآن من علم وخبرة وأراهم مصابيح تنشر نورها بيننا ، ومنهم من غاب عن دنيانا ومنهم من لا يزال يعيش وسطنا أطال الله في أعمارهم. وبإذن الله سأتناولهم تباعاً في المنشورات القادمة.
محمد الرافعي ، 19 مارس 2021