هل ماتت الحرفية في عمارة منزوعة الدسم
أتتذكرون طفولتكم وكم هي كانت جودة الحياة فيها؟ أتذكرون عندما كانت المباني تجسد صورة دقيقة لقسمات مجتماعتنا، وتحمل في طياتها قصصاً وأسراراً؟ عندما كانت الجدران تتحدث، والخشب يروي حكايات الزمن؟ اليوم، يبدو أن المباني فقدت روحها، وتحولت إلى مجرد هياكل خالية من أي معنى. فما الذي حدث؟ ولماذا فقدنا هذا الارتباط العميق بين الإنسان والمكان وفقدنا تلك السمات في عمارتنا؟
من عدة عقود قليلة، حينما كنا صغاراً كان يأتينا يومياً بائع الحليب “اللبان”، وهو شخص يركب دراجة هوائية ويأتي غالباً من القرى المحيطة بالمدينة مصطحباً معه وعائين كبيرين من المعدن بداخلهما حليب رائع المذاق، وكنا ننتظره كل مساء في موعده المحدد لنشتري منه هذا الحليب الطازج الذي كان بمجرد تسخينه على البوتجاز وتركه ليبرد تتكون على سطحه طبقة سميكة جداً من القشدة لأنه كان دائماً “كامل الدسم”، ولم نكن نعرف وقتها أن هذا الحليب الذي اعتدنا على نتناوله بهذه الجودة الرائعة سيصبح يوماً ما سلعة باهظة الثمن تباع في عبوات ورقية على الأرفف الخاصة في مجمعات التسوق الضخمة المسماة “هايبر ماركت” بعد أن تم نزع كل ما به من جودة تقريباً وأصبح أقرب إلى الماء الملون! منه إلى الحليب، وما يباع منه “كحليب كامل الدسم” تجده مستحيل أن يمنحك تلك الطبقة القشدية السميكة التي كنا نحصل عليها في السابق!!
في سياق آخر، قد كانت الدواجن والطيور التي نأكلها جميعها يتم تغذيتها بحبوب طبيعية مثل الذرة أو الفول وفي أسوأ الأحوال كان البعض من الفلاحين يطعم طيوره من الخبز المغمور في المياه ومرة أخرى لم نكن وقتها ندرك أن تلك الطيور التي تغذت على أعلاف طبيعية ستصبح في يوم من الأيام سلعاً باهظة لا تتاح إلا للميسورين والأثرياء، بعد أن توضع في ثلاجات قسم الأغذية “العضوية”، ولما لا؟! فالغالب الآن أن الدواجن يتم تغذيتها بأعلاف غير طبيعية تدخل فيها مواد كميائية لتسرع من عمليات الأيض والنمو لتعظيم المكاسب المالية، الأمر نفسه تجده يتكرر في الخضروات والفاكهة التي كانت تزرع بأسمدة عضوية من السباخ البلدي وأصبحت أيضاً من السلع الرفاهية بعد أن باتت جميع المزروعات “التجارية” يتم زراعتها باستخدام الأسمدة الكيماوية.
قد كان كل شيء يحيط بنا في حياتنا اليومية ذو جودة عالية، أثاثنا من الخشب الطبيعي، ملابسنا من القطن أو الصوف ، أحذيتنا من الجلد الطبيعي…..كان كل شيئ يتم صنعه بإتقان شديد فالجودة لم تكن أبداً “سلعة” تشترى أو “خدمة” إضافية يتم الدفع مقابلها، بل من الطبيعي أن تحصل عليها في كل شيء، كانت مبانينا تبنى بمواد لديها القدرة على الصمود لعقود طويلة وتصاميمها كانت تذخر بتفاصيل مدروسة بعناية فتجد الأرضيات وقد صنعت من الباركيه المسمار بأنساق هندسة رائعة وأخرى من البلاط الملون أو الرخام وكانت الأبواب والنوافذ تصنع من قطاعات خشبية سميكة فكنا إلى وقت ليس ببعيد نكتب في المواصفات الفنية عبارة “باب خشب حشوات” والتي اختفت تماماً لتحل محلها الأبواب الأم دي أف (MDF) والنوافذ الألومنيوم!!!!

تفاصيل تصميم النوافذ بين معمارنا المحلي والمعمار الدخيل المسمى “حديث”
هكذا كنا نصمم بيت الدرج وهكذا أصبحنا!
مدينة هليوبيليس القديمة التي أونشئت في بدايات القرن الماضي ومدينة هليوبليس الجديدة التي أنشئت في نهاياته
ماذا حدث ؟ لماذا اختفت تلك الجودة؟
لقد تحولت حياتنا اليومية إلى ساحة تنافسية لا تتوقف، حيث تسود ثقافة الإنتاج السريع والربح الضخم السريع. ففي زمن العولمة والتكنولوجيا المتسارعة، أصبحت الجودة ضحية للتسويق الزائف والاعتماد على المواد الرخيصة. فهل أصبحنا نرضى بأقل مما نستحق؟ هل نسينا قيمة الأشياء المصنوعة بحرفية وإتقان؟
لا يقول لي أحد أن الموارد قد شحت أو أنها أصبحت لا تكفي لسكان الكوكب التي تنمو أعدادهم باطراد، لأن الحقيقة على خلاف ذلك فالموارد تكفي الجميع، بل وأصبح هناك استنزاف شديد لها بكميات تفوق ما تحتاجه البشرية بكثير حتى أننا نسمع أحياناً عن إلقاء أطنان من المواد الغذائية في القمامة أو إعدامها للحفاظ فقط على أسعارها، فالحادث أن هناك ظلم شديد في توزيعها بعدالة بين الناس، فالفكر الرأسمالي الجشع الذي جعل كل شيء “سلعة” وجعل الجودة لها أثمان باهظة وأغرق الجميع في دوامة لا تنتهي من الإستهلاك لا يرضى بتوزيع الثروة ولا يرضى بعدالة تمتع الجميع بالموارد والخيرات التي تنتجها الأرض.
سيسأل سائل وما علاقة ذلك كله بالعمارة؟
الحقيقة أن العمارة ليست استثناء من كل ذلك، فهي كنشاط إنساني قد خضع لنفس التحولات وفقدان الجودة حتى باتت عمارتنا “منزوعة الدسم” فغالب تصاميمنا “المعاصرة” خالية من أي فكر أو جهد واعي، فالنتاج البنائي أصبح أقرب للنتاج الصناعي، وفقدنا ذلك الثراء العظيم من التفاصيل التي كانت تمتاز بها مبانينا، وتحولت عمليات التصاميم إلى ما يشبه إنتاج رسومات هندسية توفر الحد الأدنى من الوظيفة والسلامة الإنشائية بما يتلائم مع يمكن تنفيذه بالحد الأدنى من مهارات العمالة والمواد التجارية “الرخيصة” التي تغطي الحد الأدنى من الجودة، فكثير من المصممين كغيرهم أصبحوا يلهثون في دوامة الاستهلاك ولا وقت لأحد منهم ليمنح تصميمه ما يستحق من دراسة واعتناء فالكل يركض والكل مشغول فقط بكسب المال بأقصى ما يستطيع.
الجودة اختفت تقريباً من كافة أعمالنا على الرغم من أننا نردد حديث نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” أي أن الأصل في العمل هو إجادته ولا يجب أن يستتبع ذلك أي أجر أو ثمن إضافي.
أنا لا اقول لزملائنا المصممين :كونوا زهاداً أو قديسين، فنحن بشر وعلينا أعباء ومسئوليات تجاه أنفسنا وأسرنا، ولكن أقول: أن اتقوا الله في ما بين أيديكم من عمل، وارفعوا شعار “الجودة بلا مقابل” كي يبارك الله في مدخولاتكم، وامنحوا أنفسكم الوقت الكاف لدراسة تصميماتكم من كافة الوجوه، واصنعو ما ترتضيه ضمائركم، فما المانع لو استغرق التصميم شهوراً زيادة وخفضتم هامش الربح قليلا؟ وبالمقابل رويداً رويداً سيدرك أصحاب المشروعات أن عملكم يستحق أتعاب عادلة، فلا تقبلوا ما دونها، ولا ترضخوا لما يفرضونه عليكم من أساليب رخيصة لكسب المال بأي شكل على حساب الجودة، فالمال يذهب والأثر باق.
محمد الرافعي، 09 يناير 2025